تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

المقدسة ونحوها.

ثم ولاه العادل تدريس التقوية (17) فكان بها عنده فضلاء الوقت من الفقهاء لجلالته، حتى كانت تسمى نظامية الشام، وكان إذا فرغ من التدريس يظل في جامع دمشق بالبيت الصغير بمقصورة الصحابة يخلو فيه للعبادة ومطالعة الكتب ومتى احتاج إلى الطهارة خرج منها إلى المئذنة الشرقية فقضى حاجته بمكان الطهارة المجدد فيها خارج ما يليها القبلي، وبها الماء الجاري، ثم يرجع إلى مكانه والناس منعكفون عليه للانتفاع، ولا يمل من النظر إليه لحسن سمته واقتصاده في لبسه ونور وجهه، وكان لا يخلو لسانه من ذكر الله تعالى في قيامه وقعوده ومشيه.

وكان يحضر تحت النسر بالجامع بعد العصر في كل يوم اثنين وخميس لسماع الحديث عليه، وهو المكان الذي (كان) يجلس فيه عمه الحافظ أبو القاسم إلى أن توفي، ثم ابنه الحافظ أبو محمد إلى أن توفي، ثم ابنه العماد إلى أن سافر إلى العراق وخراسان، فكان الشيخ الفخر يجلس فيه بعده.

قال أبو شامة: سمعت عليه معظم كتاب دلائل النبوة للبيهقي وغيره، وكان رقيق القلب سريع الدمعة، فكنت أشاهده في أثناء قراءة الحديث عليه يبكي عند سماع ما يبكى منه ويردد مواضع الشعر والمواعظ منها نحو الشعر المنسوب إلى قس بن ساعدة:

في الذاهبين الأوّلين

من القرون لنا بصائرْ

لما رأيت موارداً

للموت ليس لها مصادرْ

ورأيت قومي بعدها

تمضي الأصاغر والأكابرْ

أيقنت أني لا محالة

حيث صار القوم صائرْ

فكان يرددها ويبكي، وكتبت إليه أبياتاً أطلب منه فيها إجازة رواية ما يجوز له وعنه روايته سنة ست عشرة وستمائة فأجابني نظماً بثلاثة أبيات وجدت بركة دعائه فيها، وما أعلمه فعل ذلك مع غيري وكتبها لي بخطه وهي:

أجزت له قولي وفق الله قصده

وأسعده بالعلم يوم معاده

رواية ما أرويه عن كل عالم

بصير بما فيه طريق سداده

فهنا وربي بالعلوم وجمعها

وبلغه فيها سني مراده

وكان يُسمع الحديث أيضاً بدار الحديث النورية (18)، وبمشهد ابن عروة أول ما فتح، وكان السلطان العادل أبو بكر بن أيوب لما عزل القاضي الزكي (19) الطاهر بن محيي الدين عن قضاء دمشق أرسل إليه أن يتولاه فأبى فطلب حضوره عنده ليلاً فجاءه فالتقاه وأقعده إلى جانبه، فجلس محتبياً مستوفزاً، فأحضر الطعام فلم يمد يده إليه ولم يأكل منه شيئاً، فسأله أن يتولى القضاء وكثّر عليه القول، فقال: حتى أستخير الله تعالى، فأخبرني من كان معه ملازماً له أنه لما رجع إلى بيته جدد الوضوء ووقف يصلي ويتضرع ويبكي /99آ/ إلى الفجر، فلما أصبح خرج إلى الجامع فصلى الصبح بالكلاسة، ثم مضى إلى مقصورة الصحابة فصلى بها على عادته، ثم دخل بيته الصغير الذي في الحائط- وهو الباب الذي كان يخرج منه خلفاء بني أمية وأمراؤها للصلاة من لدن معاوية بن أبي سفيان إلى زمن الوليد بن عبد الملك بن مروان، فلما أخذ الوليد من النصارى جهتهم الغربية وبنى القبة والنسر وجعل المحراب في وسط ذلك، فهو الذي بمقصورة الخطابة اليوم، والباب الأصغر فيها الذي بين المحراب وخزانة مصحف عثمان رضي الله عنه هو الباب الذي كان يخرج منه الوليد ومن بعده الخلفاء والأمراء إلى الصلاة بالناس، وأما الباب الكبير الخارج عن المقصورة الذي يخرج منه الخطباء فهو كان لعموم الداخلين إلى دار الخلافة بالخضراء لمن يأذن لهم في ذلك من جهة الجامع- فلما استقر الشيخ بذلك البيت جلس يذكر الله فلما طلعت الشمس إذا رُسُل السلطان قد جاؤوا في كشف ما فارقهم الشيخ عليه وهم: الجمال المصري والنجم خليل وغيرهما، فردّهم الشيخ وأصر على الامتناع وأشار بتولية الشيخ جمال الدين الحرستاني فولي، وكان قد خاف من الامتناع أن يتأذى من جهة السلطنة فجهز أهله للسفر وخرجت المحائر (20) إلى ناحية حلب فردها العادل وعز عليه ما جرى فقيل له: احمد الله تعالى أن في بلادك وفي زمانك من امتنع من ولاية القضاء واختار الخروج من بلده على التولية ديناً وزهداً.

وكان رحمه الله كثيراً إذا قام من الليل يؤذن للفجر بنفسه سواء كان في المدرسة أو خارج البلد من بستان وغيره. وبلغني أنه كان لا يأكل وحده، وإذا قدم له غذاؤه استدعى (من أهل مدرسته) من حضر يأكل معه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير