سافر أبو جعفر المنصور إلى أماكن عدة من أرض الخلافة يتفقد أحوال الرعية، وكان يلتقي في كل مدينة بعلمائها وأثناء رحلته في يوم من الأيام. ودعه الإمام الجليل المعروف بالإمام ليث بن سعد الفقيه المحدث – عند بيت المقدس فقال المنصور – عند وداعه: يا إمام، أعجبني ما رأيت من عقلك، ولقد فرحت إذ أبقى الله في الرعية مثلك، ثم قال: ألا تدلني على رجل أجعله والياً على مصر؟ فسكت الليث قليلاً، وقبل أن يذكر له اسم أحد العلماء العاملين المعروفين بحكمتهم وحسن إدارتهم. قال المنصور: فما يمنعك أنت يا أمام أن تكون والياً على مصر؟ فقال الليث: يا أمير المؤمنين، أنا لا أقوى وأنا ضعيف، ولا يجوز لك أن تولي الضعفاء ومن ليسوا أهلاً للولاية، فتبسم المنصور وقال: بل أنت قوي ولكن ضعفت نيتك في العمل في هذا الأمر.
*محاولة توحيد التشريع وإخضاع الناس لأحكام موحدة:
حاول أبو جعفر المنصور مع الإمام مالك توحيد التشريع وإخضاع الناس لأحكام موحدة، فقد توجه إلى الإمام مالك بن أنس قائلاً: قد أردت أن أجعل هذا العلم علماً واحداً فأكتب به إلى الأمراء والأجناد وإلى القضاة فيعملون به، فمن خالف ضربت عنقه. إلاّ أن الإمام مالك رفض هذا الأمر وأكد على شرعية الاختلاف بين الفقهاء.
* الخليفة المهدي (158هـ/ 774م -169هـ/ 785م):
لقد عهد الخليفة المهدي بسياسات تتسم بالتسامح والمرونة والعدل، فرد المظالم وشهد الصلوات في جماعة، وفرق خزائن المنصور في سبيل الخير، ووسّع المسجد الحرام، وأمر بنزع المقاصير عن المساجد وتقصير المنابر إلى الحد الذي كان عليه منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعُني المهدي بأمر القضاء، فكان إذا جلس للمظالم قال: أدخلوا علي القضاة فلو لم يكن ردي للمظالم إلاّ حيائي منهم لكفى.
واقتفاء لأثر أبيه كان المهدي يعين القضاة بنفسه. وقال المهدي لسفيان الثوري: اصحبني حتى أسير فيكم سيرة العمرين. وفي رواية أخرى خلع خاتمة وقال له: هذا خاتمي فأعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة. كما عرض عليه أن يتولى القضاء إلاّ أنه رفض هذه العروض.
وعمد الخلفاء العباسيون إلى استشارة الفقهاء في بعض القضايا، فقد استشار الخليفة المهدي مالك بن أنس في إنقاص منبر رسول الله وإعادته إلى ما كان عليه.
ومن جهة أخرى كانت السلطة العباسية تستخدم القوة مع الفقهاء إذا ما ظهر منهم مواقف معارضة للسلطة، وقد أيدت مجموعة من الفقهاء السلطة العباسية، وتعاملت معها على أساس أنها دولة الخلافة صاحبة الشرعية الإسلامية، ونتيجة لذلك ارتبط عدد من الفقهاء بعلاقات ودية مع خلفاء الدولة العباسية، فقد كان الحجاج بن أرطأة من أصحاب أبي جعفر المنصور، ثم ضمه إلى ابنه المهدي فظل ملازماً له.
ونتيجة لهذه العلاقة الحسنة قدم هؤلاء الفقهاء المشورة والنصح للسلطة العباسية في القضايا التي تحتاج السلطة فيها إلى مساعدتهم، فكتب القاضي عبيد الله بن الحسن العنبري كتاباً إلى الخليفة المهدي اشتمل على عدد من النصائح في موضوعات متفرقة، أكد في بداية الكتاب على أهمية السلطة في حياة المسلمين، وضرورتها لما بها من نفع لهم، فمن خلالها تُطبق الأحكام فتسكن البلاد، وتستقر العباد، وبها تُحمى البيضة، ويُصدّ الأعداء وتُحمى الثغور، ثم ذكّر الخليفة بالحقوق الملقاة على عاتقه وجزيل الثواب الذي ينتظره في الآخرة إن هو أداها على الوجه الذي ينبغي وبعد ذلك عدد له الخصال التي يحملها الخليفة عن الأمة وهي: الثغور والأحكام والفيء والصدقة، فحثه على سد الثغور ومدها بأهل النجدة والشجاعة.
أما على صعيد الأحكام، فقد بين للخليفة مصدرها وهي الكتاب والسنة وإجماع الأئمة الفقهاء وأخيراً اجتهاد الحاكم مع مشاورة أهل العلم، وبالنسبة للفيء والصدقة فقد نصح الخليفة بتحري العدل، والتخفيف عن أهل الخراج، وأن تُصرف الأموال في مصارفها الشرعية، وأن يقتفي الخليفة أثر الخلفاء الراشدين كعمر بن الخطاب في تحديد مصارف هذه الأموال، وأشار على الخليفة بتوسيع قاعدة الشورى. فقال له: فإن رأى أمير المؤمنين أن يكون بحضرته قوم منتخبون من أهل الأمصار، أهل صدق وعلم بالسنة، وأولو حنكة وعقول وورع لما يرد من أمور الناس وأحكامهم وما يُرفع إليه من مظالم فليفعل .. ففي ذلك عون وصدق على ما فيه -إن شاء الله- وقد قال الله -عز وجل- لنبيه صلى
¥