قلت في أول كلامك السابق: (فالذي يطلق على الراوي لفظ الجهالة فغالباً لا يكون عن جهل به، خاصة إذا كان الراوي من طبقة التابعين .. الخ).
فأنت تريد أن تقرر أن إطلاق الأئمة على الراوي: (مجهول) أنه إخبار منهم أن هذا الراوي لا تنطبق عليه معايير التوثيق لأن روايات هذا الراوي الذي حكموا عليه بالجهالة يمكن الاطلاع عليها _ وخاصة إذا كان من التابعين _ فحكمهم هذا دال على أنهم سبروا حديثه فلم يروا أنه يصل لدرجة التوثيق.
هذا ما فهمته من كلامك .. وقد بينت فيما سبق خطأ هذا الفهم _ في نظري _ وبينت أن قول الأئمة المتقدمين عن راو أنه (مجهول) يعنون به الإخبار بعدم شهرة هذا الراوي والعلم بكثير من أحواله و (في الغالب) أنها تجتمع مع عدم العلم بالعدالة.
وإلا كيف نجيب عن توثيق الأئمة (كلهم) للرواة قليلي الحديث؟!
وكيف نتعامل مع وصف الأئمة لبعض الرواة بالجهالة ومع ذلك وثقوهم؟!
ولهذا أحسنت عندما بينت أن إطلاق أبي حاتم الرازي الجهالة على بعض الصحابة أراد به جهالة سيرتهم .. وهذا دليل آخر يؤكد ما ذكرته لك.
وقولك أن (قول المحدث عن رجل أنه مجهول لا يعني بالضرورة أنه لم يطلع على حديثه) هو صحيح لأن المحدث (أحياناً) لا يستطيع الحكم على الراوي من خلال حديث أو حديثين ..
وأقول لك أيضاً: ولا يعني بالضرورة أن قول المحدث عن رجل أنه مجهول أنه اطلع على حديثه كله فلم يره يصل إلى درجة التوثيق دائماًَ! للأدلة السابق ذكرها.
ورحم الله الذهبي حيث قال في الميزان (1/ 211) في ترجمة الأسقع بن الأسلع: (ما علمت روى سوى سويد بن حجير الباهلي، وثقه مع هذا يحيى بن معين، فما كل من لا يعرف ليس بحجة، لكن هذا الأصل).
فالأصل كما قال الذهبي هو أن من لم يعرف أنه ليس بحجة، لكن مع ذلك قد يحتج بمن قيل إنه لا يعرف إذا وثقه إمام آخر، ولا يكون هذا من باب تعارض الجرح والتعديل، فتأمل!
وأما بخصوص رغبتك في معرفة رأيي فيما إذا حكم إمام واحد أو أكثر من الأئمة المتقدمين _ الذين يعتد بأقوالهم في الجرح والتعديل _ بتوثيق راو قليل الحديث أو تضعيفه فالذي أراه هو أنه ينبغي اعتماد حكمهم وعدم مخالفته ما دام أن هؤلاء الأئمة لم يخالفوا من أئمة آخرين يعتمد بقولهم.
وهذا هو ما فعله أئمة الحديث كالذهبي وابن حجر ..
أما الذهبي فإنه قال في الميزان (4/ 279) في ترجمة نوح بن المختار: (وقال أبوحاتم " لا يعرف " .. ثم قال بعد ذلك: قوله " لا يعرف " ليس بجرح، فقد عرفه يحيى ووثقة)
وأما ابن حجر فقد نقلت لك كلامه السابق من ترجمة الأسود بن مسعود.
ثم إذا قلت بأني لست ملزماً بحكم واحد واثنين فهل تلزم نفسك بحكم ثلاثة أو لا بد أن يكون عددهم أكثر؟!
وما هو ضابط هذا الراوي قليل الحديث الذي تسمح لنفسك بمخالفة الأئمة فيه، هل هو من روى حديثين، ثلاثة، أربعة .. أو أكثر أو أقل؟!
ثم إذا وثق الأئمة أو ضعفوا راوياً وخالفتهم في ذلك، ألا يمكن أن يفوتك أحاديث اطلعوا عليها وخفيت عليك، أو سمعوها ولم تقف عليها أنت!!
وأما المثال الذي نقلته عن ابن معين ففي نقلك له واحتجاجك به نظر:
فأما كلام ابن عدي فإليك هو:
قال ابن عدي (4/ 298): ثنا محمد بن علي ثنا عثمان بن سعيد سألت يحيى عن عبد الرحمن بن آدم كيف هو؟ فقال: لا أعرفه.
ثم قال ابن عدي: وهذان الاسمان اللذان ذكرهما عثمان عن ابن معين فقال لا أعرفهما، وإذا قال مثل ابن معين لا أعرفه فهو مجهول غير معروف، وإذا عرفه غيره لا يعتمد على معرفة غيره لأن الرجال بابن معين تسبر أحوالهم).
فأولاًَ: ليس في ترجمة هذا الراوي توثيق إمام آخر حتى تقول إن ابن عدي رجح تجهيل ابن معين عليه!
وإنما فيه حكم لابن معين وحده، وليس فيه ما يخالفه، فاعتمده ابن عدي.
وثانياً: قول ابن عدي: (وإذا عرفه غيره لا يعتمد على معرفة غيره لأن الرجال بابن معين تسبر أحوالهم).
أراد ابن عدي أن غير ابن معين ممن لا يعتمد عليه في الجرح والتعديل إذا قال إني عرفت هذا الرجل فإنه لا يعتمد على معرفته، لا أنه يرد بهذا كلام غيره من النقاد _ ممن هم في طبقة ابن معين علماً وحفظاً _ إذا خالف كلام ابن معين.
وإلا فهل تظن أن ابن عدي يخص معرفة الرجال بابن معين فقط؟!، وأنه يرد قول غيره من كبار الأئمة كأحمد وابن المديني ونظرائهما!
ومما يؤكد لك هذا الأمر ويزيده وضوحاً أن ابن عدي نقل في عدة تراجم مثل قول ابن معين السابق ومع ذلك وثق هذا الراوي ولم يعتمد تجهيل ابن معين!!
وإن أردت أمثلة فإليك بعضها، فانظر:
ترجمة حاتم بن حريث الشامي. الكامل (2/ 439)
وترجمة سفيان بن عقبة. الكامل (3/ 413).
وأخيراً .. بقيت مسألتان:
الأولى: ما يتعلق باحتجاج ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل برجال ضعفاء ..
فإني لم يتضح لي معنى قولك ( .. أفلا يرجح هذا أنه قصد توثيق المجهول).
وقولك: لم أهمل أحياناً أقوالاً في التهذيب ولا نجدها عنده؟
والجواب: لأنه بشر! بل اعجب من أنه يذكر أحياناً أقوالاً عن بعض الرواة في غير مظنتها ولا يذكرها في مظنتها!!
وقد جمعت _ بحمد الله _ في هذا الباب كتاباً حافلاً _ يسر الله الانتهاء منه _.
الثانية: أما ما يتعلق بذكر ابن حبان للراوي في الثقات دون توثيقه، فإني أرى هذا ليس توثيقاً منه له، لأدلة كثيرة، منها:
1_ أن شرط الثقة عنده أن يكون الراوي عنه ثقة حتى يعتبر حديثه.
وفي كتابه الثقات تراجم كثيرة جداً خلاف شرطه هذا، فهناك جمع من الرواة لم يرو عنهم إلا ضعيف أو محهول.
2_ أنه ضعف بعض الرواة في كتابه هذا وبعضهم جهلهم، فكيف نقول أنه أراد توثيق هؤلاء الرواة!
3_ أنه نص في مواضع من كتابه على أن بعض الرواة لم يذكره للاحتجاج وإنما ذكره للمعرفة.
¥