1 - ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من وجوه متعددة أنه قال:- (خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) ([104]).
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خير القرون قرنه مطلقاً. وذلك يقتضي تقديمهم في كل بابٍ من أبواب الخير. و إلا لو كانوا خيراً من بعض الوجوه فلا يكونون خير القرون مطلقاً. فلو جاز أن يخطئ الرجل منهم في حكم و سائرهم لم يفتوا بالصواب وإنما ظفر بالصواب من بعدهم و أخطأوا هم لزم أن يكون ذلك القرن خيراً منهم من ذلك الوجه لأن القرن المشتمل على الصواب خير من القرن المشتمل على الخطأ في ذلك الفن. ثم هذا يتعدد في مسائل عديدة لأن من يقول قول الصحابي ليس بحجة يجوز عنده أن يكون من بعدهم أصاب في كل مسألة قال فيها الصحابي قولاً ولم يخالفه صحابي آخر وفات هذا الصواب الصحابة. ومعلوم أن هذا يأتي في مسائل كثيرة تفوق العد والإحصاء فكيف يكونون خيراً ممن بعدهم وقد امتاز القرن الذي بعدهم بالصواب فيما يفوق العد والإحصاء مما أخطأوا فيه. ومعلوم أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكمل الفضائل وأشرفها.
فياسبحان الله أي وصمة أعظم من أن يكون الصديق أو الفاروق أو عثمان أو علي أو ابن مسعود أو سلمان الفارسي أو عبادة بن الصامت و أضرابهم - رضي الله عنهم - قد أخبر عن حكم الله أنه كيت وكيت في مسائل كثيرة وأخطأ في ذلك ولم يشتمل قرنهم على ناطق بالصواب في تلك المسائل حتى تبع من بعدهم فعرفوا حكم الله الذي جهله أولئك السادة، وأصابوا الحق الذي أخطأه أولئك الأئمة.-سبحانك هذا بهتان عظيم-.
2 - ما روى مسلم في صحيحه ([105]) من حديث أبي موسى الأشعري قال:- صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء فجلسنا. فخرج علينا. فقال:- (ما زلتم ههنا). فقلنا:- يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء. قال:- (أحسنتم وأصبتم) -ورفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء -. فقال:- (النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد. وأنا أمنة لأصحابي. فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون. وأصحابي أمنة لأمتي. فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون).
ووجه الاستدلال بالحديث أنه جعل نسبة أصحابه إلى من بعدهم كنسبته إلى أصحابه وكنسبة النجوم إلى السماء.
ومن المعلوم أن هذا التشبيه يعطي من وجوب اهتداء الأمة بهم ما هو نظير اهتدائهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم ونظير اهتداء أهل الأرض بالنجوم.
–وأيضاً - فإنه جعل بقاءهم بين الأمة أمنة لهم وحرزاً من الشر وأسبابه. فلو جاز أن يخطئوا فيما أفتوا به ويظفر به من بعدهم لكان الظافرون بالحق أمنةً للصحابة وحرزاً لهم. وهذا من المحال.
3 - قول رسول الله صلى الله عليه وسلم - (إن مثل أصحابي في أمتي كمثل الملح في الطعام لا يصلح الطعام إلا بالملح) ([106]).
قال الحسن ([107]):- قد ذهب ملحنا فكيف نصلح.
ووجه الاستدلال أنه شبه أصحابه في صلاح دين الأمة بهم بالملح الذي صلاح الطعام به. فلو جاز أن يفتوا بالخطأ ولا يكون في عصرهم من يفتي بالصواب ويظفر به من بعدهم لكان من بعدهم ملحاً لهم. وهذا محال.
يوضحه أن الملح كما أن به صلاح الطعام، فالصواب به صلاح الأنام. فلو أخطأوا فيما أفتوا به لاحتاج ذلك إلى ملح يصلحه. فإذا أفتى من بعدهم بالحق كان قد أصلح خطأهم فكان ملحاً لهم.
4 - قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:- (لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) وفي لفظ:- (فو الذي نفسي بيده) ([108]). وهذا خطاب منه لخالد بن الوليد ولأقرانه من مسلمة الحديبية والفتح فإذا كان مد أحد أصحابه أو نصيفه أفضل عند الله من مثل أحد ذهباً من مثل خالد و أضرابه من أصحابه – مع أنه رضي الله عنه هو منهم - فكيف يجوز أن يحرمهم الله الصواب في الفتاوى ويظفر به من بعدهم؟ هذا من أبين المحال.
5 - قول النبي صلى الله عليه وسلم:- (إن الله اختارني واختار لي أصحاباً. فجعل لي منهم وزراء و أنصاراً وأصهاراً …) الحديث ([109]). ومن المحال أن يحرم الله الصواب من اختارهم لرسوله وجعلهم وزراءه وأنصاره وأصهاره ويعطيه من بعدهم في شئ من الأشياء.
6 - حديث العرباض بن سارية قال:- وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة. ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقال قائل:- يا رسول الله كأنها موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟
فقال:- (عليكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة. وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور. فإن كل محدثة بدعة. وكل بدعة ضلالة) ([110]).
قال ابن القيم ([111]):- (وهذا حديث حسن إسناده لا بأس به. فقرن سنة خلفائه بسنته. وأمر باتباعها كما أمر باتباع سنته. وبالغ في الأمر بها حتى أمر بأن يعض عليها بالنواجذ. وهذا يتناول ما أفتوا به وسنوه للأمة وإن لم يتقدم من نبيهم فيه شئ وإلا كان ذلك سنته. ويتناول ما أفتى به جميعهم أو أكثرهم أو بعضهم؛ لأنه علق ذلك بما سنه الخلفاء الراشدون. ومعلوم أنهم لم يسنوا ذلك وهم خلفاء في آن واحد فعلم أن ما سنه كل واحد منهم في وقته فهو من سنة الخلفاء الراشدين).
كما يؤخذ من الحديث أنه إذا قال الصحابة قولاً أو أحدهم ثم خالفهم من لم يعاصرهم كان مبتدئاً لذلك القول ومبتدعاً له، فهو من محدثات الأمور فلا يجوز أتباعهم فيه.
7 - حديث حذيفة قال:- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:- (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر. واهتدوا بهدي عمار. وتمسكوا بعهد ابن أم عبد) ([112]).
قال الترمذي:- هذا حديث حسن غريب ([113]).
ووجه الاستدلال به ما تقدم في تقرير المتابعة ([114]).
8 - حديث أبى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:- (إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا) الحديث ([115]).
فجعل الرشد معلقاً بطاعتهما فلو أفتوا بالخطأ في حكم وأصابه من بعدهم لكان الرشد في خلافهما
تابع===
¥