وأما ما زعمه أبو الحسن الأندلسي (رحمه الله تعالى) " أن للمحدثين أغراضا في طريقهم احتاطوا فيها وبالغوا في الاحتياط، ولا يلزم الفقهاء اتباعهم على ذلك، وأن الفقيه قد يعلم صحة الحديث بموافقة الأصول، أو آية من كتاب الله تعالى، فيحمله ذلك على قبول الحديث، والعمل به، واعتقاد صحته، وإذا لم يكن في سنده كذاب فلا بأس بإطلاق القول بصحته إذا وافق كتاب الله تعالى وسائر أصول الشريعة " 22.
فيرده ما سبق سرده من نصوص الأئمة هذا من حيث الجملة.
وأما من حيث التفصيل فقوله " إن المحدثين بالغوا في الاحتياط " بعيد عن الدقة، وذلك لأن منتهج المحدثين في التصحيح و التضعيف لم يكن قائما على التخمين والاحتياط، وإنما على تتبع القرائن والملابسات، ولذلك فإنهم حين أعلوا الحديث المرفوع بالموقوف يعني أن القرائن نبهتهم على أن رفع الحديث خطأ، وليس لمجرد وجود المخالفة بين الموقوف و المرفوع، أو بين المتصل والمرسل، وليس لأنهم مبالغون في الاحتياط، ويمكن أن نصفه بذلك إذا كان منهجهم في ذلك مجرد تخمين وظن، دون تعويل على القرائن والملابسات.
وأما طعنهم في الراوي فليس كما قال الأندلسي: إذا انفرد بالحديث أو بزيادة فيه أو لمخالفته من هو أعدل منه، أو أحفظ، يطعن فيه النقاد، وإنما طعنوا فيه لكثرة مخالفته الصواب و كثرة تفرده بما ليس له أصل، وليس لمجرد أنه قد خالف من هو أعدل منه، دون لجوء إلى ما يحف به من القرائن.
وأما الجملة الأخيرة فتعد غريبة منه رحمه الله تعالى، وهي وليدة خلط بين قضيتين مختلفتين تتميز كل منهم عن الآخر بالضوابط، إذ موافقة القول المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم الأصول أو الآية القرآنية لا تعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله بالضرورة، والذي ذكره أبو الحسن الأندلسي إنما هو من حيث محتوى النص، فسلامته من الخلل تتم بانسجامه مع الأصل الثابت أو الإجماع، وأما من حيث روايته وإضافته إلى شخص ما فينبغي أن يكون خاضعا لقواعد النقل و الرواية. وبمجرد أن يكون نص ما قد وافق الآية القرآنية لا يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله بالضرورة إذا لم يكن من رواية الكذاب.
ومن المعلوم أن النقل له قواعد وضوابط، كما للعقل قواعد وضوابط، ولا ينبغي إخضاع أحدهما لقواعد الآخر إلا في حالات معينة وبطريقة علمية منهجية، وبالتالي فما لا يمنع العقل وقوعه لا يلزم إضافته إلى شخص، ما لم يثبت عنه نقلا، وكيف إذا كان الآمر يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإن الخطب فيه جلل والعاقبة وخيمة.
وعلى كل فقد ظهر جليا مما سبق أن أئمة الفقه والأصول كانوا يقعدون القواعد وينظرون المسائل فيما يخص التصحيح والتعليل والقبول والرد والجرح والتعديل وفق ما يقتضيه التجويز العقلي المجرد، كما سبق الإشارة إلى ذلك في نص الإمام ابن دقيق العيد، وكذا نص أبي الحسن الأندلسي، وبالتالي يكون من الإنصاف العلمي أن لا يعد ذلك منهجا علميا يوازي منهج المحدثين النقاد.
[يتبع]
ـ[خليل بن محمد]ــــــــ[28 - 03 - 02, 09:33 م]ـ
و [تابع مقال الشيخ حمزة المليباري]
ربما نجد في نصوص بعض المتأخرين أن المحدثين يضعفون الأحاديث لعلة غير قادحة، وأنهم يضعفون الحديث لاختلاف رواته على شيوخهم في اسم الصحابي، ويعدون مثل هذا الاختلاف علة تقدح في صحة الحديث. و أما الفقهاء فلا يعدونه قادحا لأن الحديث في جميع الاحتمالات يكون من رواية الصحابي، ولا يضر الإبهام في اسمه لثبوت عدالة الصحابة، مما يوهم القارئ المستعجل أن الفقهاء هم في غاية من الدقة في التصحيح و التضعيف. أقول: كلا ثم كلا، فإن ذلك النوع من الخلاف لن يكون مقياسا لمعرفة دقة الفقهاء في التصحيح و التضعيف و مرونتهم في ذلك، وهذا في الواقع أمر سهل، بل لا يرد أحد من النقاد الأحاديث من أجله، وإنما يرفض فقط أن يحدد الراوي بأنه فلان، لوقوع اضطراب حوله، دون أن يقدح ذلك في صحة الحديث.
وأما الخلاف الجوهري المتمثل في كون الحديث موقوفا أو مرفوعا، أو كون الحديث مرسلا أو متصلا، أو كون الحديث بزيادة أو بدونها فيعد ذلك كله من العلل القادحة فقط إذا توفرت القرائن على أن رفعه أو وصله أو زيادته خطأ محض من راويه أيا كان هذا الراوي، ولم يكن ذلك مبنيا على مجرد تخمين، أو تجويز عقلي.
¥