تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وبكل حال: فالجهابذة النقاد العارفون بعلل الحديث أفراد قليل من أهل الحديث جداً وأول من اشتهر في الكلام في نقد الحديث ابن سيرين ثم خلفه أيوب السختياني وأخذ ذلك عنه شعبة وأخذ عن شعبة يحيى القطان وابن مهدي وأخذ عنهما أحمد وعلي بن المديني وابن معين وأخذ عنهم مثل البخاري وأبي داود وأبي زرعة وأبي حاتم، وجاء بعد هؤلاء جماعة منهم النسائي والعقيلي وابن عدي والدار قطني، وقل من جاء بعدهم من هو بارع في معرفة ذلك.

حتى قال أبو الفرج الجوزي في أول كتابه (الموضوعات): (قل من يفهم هذا بل عدم والله أعلم) اهـ.

ثم إن أهل العلم بعدهم ـ أعني بهم من تأخر زمنه عن أولئك الأئمة ـ وبعد انتهاء مراحل جمع الحديث وتدوينه بالأسانيد وتمييز صحيحه من ضعيفه اتجهوا إلى دراسة ما تركه أولئك من تراث عظيم.

وكان من ضمن تراثهم طريقتهم في دراسة الحديث والحكم عليه فدرسوا مناهجهم في ذلك وحاولوا استخلاص ضوابط كلية تيسر عليهم التعامل مع الأحاديث أسانيدها ومتونها.

فوضعت هذه الضوابط أول ما وضعت تقريباً لعلم أصول الحديث إلى أذهان الطلاب وتعريفاً لهم بطريقة السلف في التعامل مع الأحاديث تصحيحاً وتعليلاً (4).

ثم ما لبثت هذه القواعد والضوابط أن جعلها بعض المعاصرين سيفاً يبارز به الأئمة الفحول من المتقدمين (5) فيصحح ما ضعفوه أو يضعف ما صححوه بحجة أن كلام المتقدمين على هذا الحديث أو ذاك يخالف ما تقرر في 0 قواعد المصطلح) (6)!!!.

وهل (مصطلح الحديث) و (قواعده) إلا محاولة لتقريب علوم أولئك الجهابذة إلينا؟! فالواجب محاكمة (قواعد المصطلح) إلى عمل أولئك الأئمة لا محاكمة عملهم إلى (قواعد المصطلح).

وإن من أعظم الفوارق بين ما انتهجه المتقدمون في علم الحديث، وما النتهجه المتأخرون هو أن المتقدمين كانت أحكامهم تقوم على السبر والتتبع والاستقراء في التصحيح والتضعيف والتوثيق والتجريح والتعليل والحكم بالوهم والتدليس والنكارة ونحو ذلك، مع الحفظ والفهم وكثرة المدارسة والمذاكرة، وأما المتأخرون فغلب علة منهجهم الاعتماد على الضوابط التي سبق الإشارة إليها، وجعلها كثير من المعاصرين طريقاً سهلاً يختصر عليهم عناء الحفظ ويطوي عنهم بساط الاستقراء والتتبع والممارسة والمقارنة والنظر في القرائن وأحوال الأسانيد والمتون، فيكفي الطالب منهم ليقارع أكبر الأئمة في ذلك الزمن أن يقرأ كتاباً في (مصطلح الحديث)، ويخرّج بعض الأحاديث (7).

* الحواشي:

(1) (كتاب المجروحين) 1/ 58 ـ بتصرف يسير ـ.

(2) (جامع العلوم والحكم) ص256، بتصرف يسير.

(3) يعني حديث (إذا حدثتم عني حديثي تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوه فإني أقول ما يعرف ولا ينكر وإذا حدثتم عني بحديث تنكرونه ولا تعرفونه فلا تصدقوا به فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف)، وقد ذكر علته وضعفه.

(4) ومما يدل على ذلك أن عمدة كتب المتأخرين في المصطلح هو كتاب (مقدمة ابن الصلاح)، وقد صرح ابن الصلاح بأن باب التصحيح والتضعيف قد أغلق ولا بد فيه من الاعتماد على أقوال المتقدمين فقط (المقدمة) ص16،17.

(5) بالنسبة لعمل فضلاء المتأخرين كالنووي والذهبي وابن حجر والعراقي والسخاوي ونحوهم فإنهم وإن قعدوا تلك القواعد إلا أنهم لم يبارزوا بها أولئك الأئمة، فيصححوا ما ضعفوه أو يضعفوا ما صححوه. فقد قال الحافظ بن حجر ـ وهو من واضعي قواعد المصطلح ـ في (النكت) 2/ 726ـ عند كلامه على تعليل للسلف لبعض الأحاديث ـ (وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين وشدة فحصهم وقوة بحثهم وصحة نظرهم وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه) اهـ، وقال في حديث ظاهر إسناده الصحة قال عنه أبو حاتم (باطل) (التلخيص) 2/ 131: (لكن أبو حاتم إمام لم يحكم عليه بالبطلان إلا بعد أن تبين له) اهـ، وقال الذهبي في (الموقظة) ص45 عند كلام له على بعض الرواة (وهذا في زماننا يعسر نقده على المحدث، فإن أولئك الأئمة كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود عاينوا الأصول وعرفوا عللها وأما نحن فطالت علينا الأسانيد وفقدت العبارات المتيقنة) اهـ.

(6) نحو قول بعض المعاصرين ردا على بعض الأحاديث التي أعلها السلف: (هذا إسناد رجاله ثقات فهو صحيح فلا التفات إلى قول من ضعفه)، (وذاك إٍناد وإن تفرد به فلان لكنه ثقة وتفرد الثقة مقبول)، (وتلك الزيادة زادها فلان وزيادة الثقة مقبولة) = ونحوه قولهم بفي بعض الأحاديث التي صححه السلف: (وهذا الإسناد وإن كان رجاله ثقات إلا أن فيه فلانا وهو مدلس وقد عنعن)، (وهذا الإسناد ضعيف لأن فيه فلاناً وهو سئ الحفظ)، (وهذا إسناد حسن لا صحيح لأن فيه فلاناً وهو (صدوق) كما في (التقريب)، وأعجب من هذا كله قول أحد أولئك على حديث أعله إمام العلل أبو الحسن علي بن المديني (وهو أعلم من الإمام أحمد بعلم العلل كما ذكره الإمام أحمد نفسه في رواية حنبل عنه ـ وهو الذي يقول فيه البخاري ـ أمير المؤمنين في الحديث ـ (ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني) فجاء هذا إلى الحديث الذي أعله ذلك الإمام قائلاً (ما هكذا تعلل الأحاديث يا ابن المديني)!!!! ول سألت هذا (المزاحم لأولئك الجهابذة) أن يروي لك حديثاً واحداً بالإسناد حفظاً ما استطاع، وربما لو قرأه نظراً لصحف في مواضع، ولو علم هؤلاء قدرهم لعلموا أن من أعظم النعم عليهم في هذا الباب أن لو فهموا تعليلات السلف للأحاديث على وجهها واستطاعةا شرحها ولكن (ساء فهم فساء جابه).

(7) لا أعني في هذا الكلام أن باب التصحيح والتضعيف أغلق، ولكن الفوائد من معرفة علوم الحديث على منهج المتقدمين متعددة أهمها ثلاثة أمور:

4 - الوقوف على مآخذهم في الحكم على الأحاديث، فإن هذا يحدث من الاطمئنان أكثر مما يحدثه التقليد المحض.

5 - الترجيح بين أقوالهم عند اختلافهم في التصحيح والتضعيف استناداً إلى طرقهم في ذلك.

6 - الحكم على الأحاديث التي لم يبلغنا حكمهم فيها.

أما مزاحمتهم في أحكامهم على الأحاديث فلا والله.

[نقلاً من كتابه الماتع ((منهج المتقدمين في التدليس))]

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير