منها ذاتية ترجع للعلماء انفسهم. ومنها موضوعية، وهي الاهم، ونعني بها اتساع العلوم وتشعب اصولها كما اشرنا اليه، فان الموسوعية اقترنت مع دور تكون العلوم وظهورها، ولاريب فان الاحاطة باصول تلك العلوم واتقانها امر داخل في المقدور وان كان ليس بالامر اليسير في نفس الوقت الا ان ذلك لم يقدر له ان يستمر مع تقدم العلوم وتضخمها، ففقد العلم طابعه الموسوعي وخضع للامر الواقع، وبدا ينحو باتجاه التخصص والتعمق اكثر، فلبست الموسوعية ثوبا آخر، وهو لباس القدرة على التفريع في العلم الواحد او المسالة الواحدة، وتنافس العلماء في ذلك حتى انه لا يعد العالم عالما ان لم يكن ماهرا في التفريع من الاصول وكثرة التحقيق، والا كان مقلدا، ولكن بدرجة اعلى من درجات التقليد المحض.
فافرزت هذه الحركة الجديدة قمما من العلم سموا
بالمجددين، الذين جددوا في العلوم وابواب المعرفة واضافوا فيها.
وقد ترك الموسوعيون الاوائل كتبا وآثارا جمة تعكس المامهم وسعة ثقافتهم وتنوعها، تلقاها المتاخرون عنهم بالاهتمام واعتبروها من امهات المصادر في بحوثهم، كما اعتبرها المعاصرون في القرون المتاخرة دوائر معارف او موسوعات في بابها.
قال في الذريعة «وعلى هذا فجميع الكتب العلمية القديمة قد دونت بصورة يمكن لنا ان نسميها اليوم: (دائرة المعارف) كما ان ما يكتب اليوم بعنوان علم واحد من العلوم قد يجي ء زمان يتشعب فيه ذلك العلم، فتسمى هذه الكتب ايضا (دوائر معارف). ولكن يمكن لنا ان نخص هذا اللفظ بالكتاب الذي جمعت فيه من العلوم ما قد انشعبت وتفرقت وتباينت في زمان تاليف ذلك الكتاب، بحيث لا يعد مؤلفه خصيصا بفن، بل يعد ذا فنون في زمانه».
وقد قسم بعض الباحثين المعاصرين طبقات الموسوعيين القدامى الى اتجاهين.
الاول: الاتجاه غير المنظم، وهم الذين كانوا يقراون ويكتبون دون نظام، وينتقلون في الفقرة الواحدة من علوم القرآن الى الشعر الجاهلي الى النبات الى الحيوان الى الفلك مما يتعب القارى ء في الظفر بمراده. وعد من هؤلاء: هشام ابن محمد بن السائب الكلبي (ت 204 او 206ه)، وابو عبيدة معمر بن المثنى (ت 210 - ه 825 م) كتب كما يقول ابن النديم مئة وخمسة كتابا في مختلف الموضوعات، والاصمعي عبدالملك بن قريب (ت 214 - ه 829 م) الف بضعة واربعين كتابا، وابو سعيد بن اوس الانصاري (ت 215 - ه 830 م) كتب قريبا من العدد السابق في شتى الفنون والعلوم، وابو عبيد القاسم بن سلام (ت 223 - ه 838 م) الف في علوم الاسلام واللغة والتاريخ وله كتاب «الاموال» في الشؤون المالية و «الغريب المصنف» موسوعة في الانسان، والطعام، والابنية، والمراكب، والسلاح وغيرها، ويعد الاخير من غرر الكتب. وكانت موسوعية هؤلاء موسوعية اتجاه لا منهج.
واما الاتجاه المنهجي فهم رواد الاتجاه الثاني: الاتجاه المنظم، الذين سلكوا الطريق الذي مهده لهم اصحاب الاتجاه الاول.
واعمدة هذا الاتجاه حسب المصدر السابق هم:
1 - قدامة بن جعفر الكاتب (ت 237 - ه 851م) وله موسوعته المعروفة في الشؤون المالية للدولة كتاب «الخراج».
2 - ابو عثمان الجاحظ (255ه - 869م) وهو عميد الموسوعيين وصدرهم، واشهر كتبه في هذا الباب كتاب «الحيوان».
3 - ابن قتيبة الدينوري (276 - ه 879م) له كتاب «عيون الاخبار» و «ادب الكاتب»، وهو يضاهي الجاحظ فيما كتب.
4 - ابو حنيفة الدينوري (282ه - 895م) وله «الاخبار الطوال».
5 - ابو العباس المبرد (285ه - 898م) وله «الكامل» موسوعة لعلوم العرب الى عصره، والحق بهؤلاء من القرن الرابع ابن عبد ربه الاندلسي (328 - ه 940م) صاحب «العقد الفريد»، وابوالفرج الاصفهاني (356ه - 967م) وله «الاغاني» وهو دائرة معارف في الفن والتاريخ والادب.
وجاء بعد اولئك جيل آخر من الموسوعيين بعد ان اصبحت الموسوعية تخصصا وفنا، اضراب: النويري (732ه - 1332م) صاحب «نهاية الارب» والقلقشندي صاحب «صبح الاعشى» (821ه - 1418م) والعمري (748ه - 1347م) صاحب «مسالك الابصار».
ثانيا: دوائر المعارف الالفبائية (القاموسية)
اشرنا في مقدمة البحث الى ظهور نمط جديد (ثالث) في عالم تدوين العلوم والثقافة العامة يعتمد ترتيب الحروف لكل مادة يراد بحثها في هذا العلم او ذاك.
¥