والثالث: في تأييد ما اخترناه ونقض أدلة المخالف.
وهذا الذي كتبته كله على وجه الاختصار وترك التطويل، إجابة لطلبك، وتسهيلاً لحصول الفائدة، وإلاّ فمن أراد استيفاء أبحاث الباب، بما لا يترك مجالاً للارتياب، فعليه بكتاب "توجيه الأنظار لتوحيد المسلمين في الصيام والإفطار" للعلامة الشريف الحافظ أبي الفيض أحمد بن محمد بن الصديق الغماري، رحمه الله تعالى. فقد حرر الصحيح من المسألة بما لا يدع قولاً لقائل، وإنما نحن متطفلون على موائد أهل العلم من باب:
إن التشبه بالكرام فلاح فتشبهوا بهم إن لم تكونوا مثلهم
والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبي ونعم الوكيل.
كتبه
الحسن بن علي بن المنتصر الكتاني
عفا الله بمنّه
فصل في ذكر اختلاف أهل العلم في المسألة
إذا رأى المسلمون الهلال في بعض البلاد ولم يره آخرون في بلاد أخرى، فهل يجب على من يره الصوم برؤية من رآه؟
في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
الأول: وجوب الصوم على من لم يره برؤية من رآه.
وهذا هو المعتمد عند الحنفية، ونسبه ابن عبد البر، رحمه الله تعالى، إلى الإمام مالك، رضوان الله تعالى عليه، فيما رواه عنه ابن القاسم العتقي والمصريون من أصحابه، كما عزاه إلى الليث والشافعي والكوفيين وأحمد، رحمهم الله تعالى أجمعين.
والثاني: أنهم لا يصومون لأن لكل قوم رؤيتهم.
وهذا القول عزاه ابن عبد البر لابن عباس وعكرمة مولاه، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسالم بن عبد الله بن عمر، وابن المبارك وإسحاق بن راهويه، رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.
وعزاه إلى مالك فيما رواه عنه المدنيون من أصحابه، وذكر ممن قال بذلك، منهم المغيرة وابن دينار وابن الماجشون، رحمهم الله تعالى.
بل حكاه الترمذي عن أهل العلم عامّة، فقال في "السنن" له رحمة الله عليه: "والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم –يريد حديث كريب الذي سنذكره بعد إن شاء الله تعالى- أن لكل بلد رؤيتهم. وحكاه الماوردي وجهاً للشافعية دون ترجيح أحد هذه الوجوه على الأخرى.
الثالث: التفريق بين البلد القريب والبعيد:
يقول الإمام النووي، رحمه الله تعالى في بيان مذهب أصحاب الشافعي رضوان الله تعالى: "إذا رأوا الهلال في رمضان في بلد ولم يروه في غيره فإن تقارب البلدان فحكمهما حكم بلد واحد، ويلزم أهل البلد الآخر الصوم بلا خلاف، وإن تباعدا فوجهان مشهوران في الطريقتين:
أصحهما: لا يجب الصوم على أهل البلد الأخرى، وبهذا قطع المصنف والشيخ أبو حامد والبندنيجي وآخرون، وصححه العبدري والرافعي والأكثرون.
والثاني: يجب، وقال به الصيمري، وصححه القاضي أبو الطيب والدارمي وأبو علي السنجي وغيرهم.
واختلف علماء الشافعية في الضابط الذي يعتبر به القرب والبعد، وعندهم فيه ثلاثة أوجه:
الأول: التباعد ما اختلف فيه مطالع الهلال كالحجاز والعراق وخراسان، والتقارب ألاّ تختلف كبغداد والكوفة والري وقزوين.
والثاني: اعتبار القرب والبعد باتحاد الإقليم واختلافه.
والثالث: التباعد مسافة القصر، والتقارب دونها.
ونقل النووي عن السرخسي والماوردي ضابطاً رابعاً، وهو أن يكون الغالب أنه إذا أبصر الهلال قوم في بلد فإنه لا يخفى على أهل البلد الآخر إلا لعارض سواء في ذلك مسافة القصر أو غيرها.
والأصح عند الشافعية فيما ذكره النووي أن اعتبار القرب والبعد باتحاد المطالع واختلافها، ونصّ النووي على أنه في حال الشك في اتفاق المطالع فإنه لا يجب الصوم على الذين لم يروه، لأن الأصل عدم الوجوب.
قال أبو محمد: إلا أن القول المعتمد عند جماهير أهل العلم هو القول الأول، وهو أنه إذا ثبت الهلال في بلاد فقد وجب على الجميع الصيام.
قال الإمام الخطابي: " قال ابن المنذر: قال أكثر الفقهاء: إذا ثبت بخبر الناس أن أهل بلد من البلدان قد رأوه قبلهم فعليهم قضاء ما أفطروه، وهو قول أصحاب الرأي – هم الحنفية- ومالك وإليه ذهب الشافعي وأحمد" اهـ.
فصل في ذكر حجج كل قول على طريق الإجمال وترك التفصيل
أولاَ: في ذكر حجج من لم ير اختلاف الأهلة شيئاً:
وهذا المذهب هو ما ندين الله تعالى به، وحجتنا الكتاب والسنة والنظر وهو القياس الصحيح المؤيد بالدليل.
فأما الكتاب فقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
¥