" وهذا الحديث من أصرح الأدلة وأقطعها في الدلالة على وجود الاتحاد وحرمة الاختلاف، وذلك أن الخطاب في قوله * "صُومُوا وَأَفْطِرُوا " إما أن يكون للحاضرين معه * أو يكون لكل فرد فرد من أمته، أو يكون لمجموع أمته. ولا يحتمل اللفظ في اللغة العربية غير هذا أصلاً.
أما احتمال كونه خطاباً للحاضرين معه * فباطل بإجماع المسلمين لأن الكل يعلم بالضرورة أن شرعه وأوامره * لازمة لأمته من وقت بعثته إلى قيام الساعة، وأمّا احتمال كونه خطاباً لكل فرد فرد من أمته فباطل بالكتاب والسنة والإجماع المتقين المقطوع به لكل مسلم على وجه الأرض".
ثم أطال في الاستدلال على ذلك، واختار بعدُ أن الأمر لمجموع الأمة، لكونه صلى الله عليه وآله وسلم عمل برؤية العدل والعدلين، وكذلك عمل خلفاؤه من بعده وسائر حكام المسلمين.
ولأنه قال " فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ " وهو لم يغم علينا مع رؤية بعضنا. وكل ما ردّ به المخالفون ودفعوا به في صدر احتجاجنا هذا بهذا الحديث فلا يستقيم لهم بأي وجه، كما سيأتي في تفنيد أدلتهم بحول الله تعالى، ويمكن الرد عليهم من نفس أقوالهم.
فبان أن أقوالهم متناقضة لا تستقيم وقولنا مستقيم يسير على قواعد الشرع الشريف، وبالله التوفيق.
وأما النظر فما عرف بالضرورة من دين الإسلام أن الله فرض علينا صيام شهر رمضان والشهر ما بين الهلالين، فإذا رؤي الهلال فقد دخل الشهر ووجب صومه، واليوم الذي لم يره فيه البلد الفلاني هو من رمضان قطعاً لأنه شهر واحد كما قدمنا لا أشهراً عديدة؛ شهرين أو ثلاث!!
وأيضاً فالقول باختلاف المطالع ذريعة للحكام المتلاعبين بالدين النابذين له وراء ظهورهم لكي يفرقوا الأمة تبعاً لإبراز شخصياتهم على غيرهم من الحكام الآخرين، وإن رؤي الهلال، بحجة أنهم لم يروه في بلادهم التي قسمها العدو الكافر بعد احتلالها وهذا حدث مراراً، ومنهم من يتشاءم من موافقة الشهر لليوم الفلاني فيزحزحه لغيره كما كان المشركون يفعلون في الأشهر الحرم. قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (التوبة: 37).
ثانيا: في حجج من يرى اختلاف الرؤية عذراً
قال أبو محمد: أما من احتج باختلاف المطالع فعمدته حديث كريب عن ابن عباس *.
وذلك أن الإمام مسلماً خرّج في "صحيحه" عَنْ كُرَيْبٍ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ. قَالَ: فَقَدِمْتُ الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا. وَاسْتُهِلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْتُ الْهِلالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ.
فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهم عَنْهمَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلالَ، فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمُ الْهِلالَ؟
فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ.
فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟
فَقُلْتُ: نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ ?.
فَقَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَلا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلاثِينَ أَوْ نَرَاهُ.
فَقُلْتُ: أَوَ لا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ؟
فَقَالَ: لا. هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّه ِ?.
وقد بوّب له الإمام النووي في "شرح مسلم": باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم.
ثم قال: " وهو ظاهر الدلالة للترجمة" ثم ذكر المعتمد من مذهب الشافعية في المسألة باختصار على ما أوضحناه آنفاً.
وبوّب له الإمام الترمذي بقوله: " باب ما جاء لكل أهل بلد رؤيتهم".
وبوّب له الإمام النسائي بقوله: " اختلاف أهل الآفاق في الرؤية".
وأيضاً بوّب له إمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة رحمة الله تعالى عليهم أجمعين بقوله: "باب الدليل على أن الواجب على أهل كل بلدة لرؤيتهم لا رؤية غيرهم".
فهذه حجة من يرى أن لكل بلد رؤيتهم.
¥