أمّا المفرقون بين البلاد البعيدة والقريبة فلا أعلم لهم دليلاً يمكن التمسك به بل كله مبني على آراء مجردة أو شبه لا تفيد ولا تصمد أمام الدليل.
وأمّا من فرق بين المطالع فكذلك دليلهم هو حديث كريب السابق.
وأمّا من قال إنه لا يلزم أهل بلد رؤية غيرهم إلاّ أن يثبت ذلك عند الإمام الأعظم فلعلهم اعتبروا اجتهاد الإمام يحسم النزاع.
وأما من قال إنه لا يعتد بالبلاد البعيدة كما بين الأندلس وخراسان فدليلهم قوي وهو رفع الحرج لأنه ينبني على هذا القول أن المسلمين سيقضون كل عام أياماً فائتة لأن الأخبار لم تكن تصل بهذه السرعة والله سبحانه وتعالى علق الحكم على من شهد الشهد وهؤلاء لم يشهدوا الشهر لمّا شهده أولئك.
قال الإمام القرافي رحمه الله تعالى: "إذا تقرر الاتفاق على أن أوقات الصلوات تختلف باختلاف الآفاق وأن لكل قوم فجرهم وزوالهم وغير ذلك من الأوقات، فيلزم ذلك في الأهلة بسبب أن البلاد المشرقية إذا كان الهلال فيها في الشعاع وبقيت الشمس تتحرك مع القمر إلى الجهة الغربية، فما تصل الشمس إلى أفق المغرب إلا وقد خرج الهلال من الشعاع، فيراه أهل المغرب، ولا يراه أهل المشرق.
هذا هو أحد أسباب اختلاف رؤية الهلال، وله أسباب أخر .. وإذا كان الهلال يختلف باختلاف الآفاق وجب أن يكون لكل قوم رؤيتهم في الأهلة .. ".
وقال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمة الله عليه: "وأمّا إذا رؤي بمكان لا يمكن وصل خبره إليهم إلا بعد مضي الأول فلا قضاء عليهم، لأن صوم الناس هو اليوم الذي يصومونه، ولا يمكن أن يصوموا إلا اليوم الذي يمكنهم فيه رؤية الهلال، وهذا لم يكن يمكنهم فيه بلوغه، فلم يكن يوم صومهم، وكذلك الفطر والنسك".
قال أبو محمد: هذا مجمل ما عندي في هذا الفصل، فلنؤيد مختارنا ونذكر ما يرد على أدلة المخالفين رحم الله الجميع ورضي عنهم بمنه وكرمه.
فصل في الرد على أدلة المخالفين
ولنبدأ بالأدلة التي أخرناها ثم نرد على الاستدلال بحديث كريب، فنقول وبالله التوفيق والسداد:
يقال لمن قال بمسافة مّا أيّاً كانت أنها هي المحددة لاختلاف المطالع ما حجتك؟
فإن وقف! فقد كفانا، وإلاّ فإنّا نعلم أن هذا القول إنما هو مجرد رأي عار عن الدليل، وكل من حدّ مسافة فإنّا نلزمه بنقضها. أرأيت لو صام أهل المغرب فالذين عند الحدود قرب وجدة من جهة الجزائر هل يصومون أم يفطرون وهم يرون جيرانهم صائمين وقل مثل ذلك مطرداً حتى تعم الأرض كلها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "إذا اعتبرنا حدّاً: كمسافة القصر أو الأقاليم فكان رجل في آخر المسافة والإقليم فعليه أن يصوم ويفطر وينسك وآخر بينه وببينه غلوة سهم لا يفعل شيئاً من ذلك!! وهذا ليس من دين المسلمين".
وأمّا من علّق الحكم بحكم الإمام الأعظم، فنقول رحم الله الإمام الأعظم قد فقدناه منذ زمان، ونحن، بعدُ، في طلبه عجل الله بتنصيبه بمنه وكرمه. ونقول:
وأسكبُ من تذَكُّرهم دُموعي أرى آثارهم فأذوب شوقاً
يمن عليّ يوماً بالرجوع وأسأل من قضى بفراق حبي
فإن قال: وذلك يقتضي أن لكل دولة معاصرة حكمها الخاص حتى ييسر الله وحدتهم.
فالجواب: أن هذا من أبطل الباطل، قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.
وشتان بين خليفة المسلمين الحاكم بما أنزل الله – ولو جائراً- وبين المعرض أي المعطل لهذا الحكم المتلاعب بالدين، فهذا لا ينفذ حكمه ولا كرامة! والله سبحانه هو المستعان.
وأما ما ذكره ابن عبد البر الحافظ رحمه الله تعالى، من إجماع العلماء على اعتبار البعد الشاسع في الرؤية، فقد قال الإمام الشوكاني، رحمه الله: "ولا يلتفت إلى ما قاله ابن عبد البر من أن هذا القول – أي ما اخترناه- خلاف الإجماع قال: لأنهم قد أجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بَعُد من البلدان كخراسان والأندلس، وذلك لأن الإجماع لا يتم والمخالف مثل هؤلاء الجماعة".
قلت: يريد الذي سمّيناهم آنفاً.
وقال الغماري: "وقد نصوا على ضعف إجماعات ابن عبد البر".
¥