من هنا يتبين لنا أن الحق لا يكون بكثرة السالكين له قال تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} , وإنما الحق ألا تقول بقول ليس عليه دليل صحيح صريح، وليس من شرط أن تسبق إليه، ولكن إن وجد من سبق إلى ما ذهبت إليه كان الأحرى الاستشهاد به، ليطمئن الفؤاد لا غير وللهرب من وحشة الشذوذ، فحسب المتمخض عنه لذع ألسنة الناقدين بغير حق كما مر معنا من قول ابن القيم رحمه الله، وليعلم أن المتبع للدليل في مسألة ما وإن لم يسبق إليها من المتقدمين لا يعد ممن خالف الجماعة، لأن الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك.
قال شيخنا المجاهد النحرير فك الله أسره
((المسألة الخامسة: هل للمفتي أن يفتي في حادثة لم يتقدم فيها قول لأحد العلماء؟.
قال ابن القيم: ((إذا حَدَثَتْ حادثة ليس فيها قول لأحد من العلماء، فهل يجوز الاجتهاد فيها بالإفتاء والحكم أم لا؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يجوز، وعليه تدل فتاوي الأئمة وأجوبتهم، فإنهم كانوا يُسألون عن حوادث لم تقع قبلهم فيجتهدون فيها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر» وهذا يعم مااجتهد فيه مما لم يعرف فيه قول من قبله وماعرف فيه أقوالا واجتهد في الصواب منها، وعلى هذا درج السلف والخلف، والحاجة داعية إلى ذلك لكثرة الوقائع واختلاف الحوادث، ومن له مباشرة لفتاوي الناس يعلم أن المنقول وإن اتسع غاية الاتساع فإنه لايفي بوقائع العالم جميعا، وأنت إذا تأملت الوقائع رأيت مسائل كثيرة واقعة وهى غير منقولة، ولايعرف فيها كلام لأئمة المذاهب ولالأتباعهم.
والثاني: لا يجوز له الإفتاء ولا الحكم، بل يتوقف حتى يظفر فيها بقائل، قال الإمام أحمد لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام.
والثالث: يجوز ذلك في مسائل الفروع، لتعلقها بالعمل، وشدة الحاجة إليها، وسهولة خطرها، ولايجوز في مسائل الأصول.
والحق التفصيل، وأن ذلك يجوز ــ بل يستحبُّ أو يجب ــ عند الحاجة وأهلية المفتي والحاكم، فإن عدم الأمران لم يجز، وإن وجد أحدهما دون الآخر احتمل الجواز، والمنع، والتفصيل، فيجوز للحاجة دون عدمها، والله أعلم.) (أعلام الموقعين) جـ 4 صـ 265 ــ 266.
قلت ((والكلام لشيخنا عبد القادر حفظه الله)): القول الثاني السابق وهو عدم جواز الإفتاء في حادثة لم يتقدم فيها قول لأحد العلماء، مع القول بخلو الزمان عن المجتهد المطلق منذ القرن الرابع الهجري وهو القول المشهور في المذهب الحنفي،
كان هذا القول هو الذريعة التي تذرعت بها الدولة العثمانية ــ وكان المذهب الحنفي مذهبها الرسمي ــ للاقتباس من القوانين الإفرنجية الوضعية الكافرة، بحجة امتناع الفقهاء عن الاجتهاد في المسائل المستحدثة، وبدأ الاقتباس في القوانين التجارية والمدنية إلى أن تطرّق شيئا فشيئا إلى قانون العقوبات، فلم يأت عام 1840م حتى كانت الدولة العثمانية تطبق القانون الجنائي الفرنسي وألغيت الحدود الشرعية بعد ذلك، ولحقت بها بقية الولايات العثمانية في ذلك.
وبهذا يتبيّن لك أن الدولة العثمانية كانت دولة كافرة منذ عام 1840م وليس منذ عام 1924م كما هو شائع بين كثير من الإسلاميين أنها كانت دولة خلافة إسلامية حتى ألغيت الخلافة بمقتضى قرارات مؤتمر لوزان عام 1924م حين وَضع مصطفى كمال أتاتورك دستوراً علمانياً لتركيا، فهذا كله ماهو إلا تحصيل حاصل، وإلا فقد كانت الدولة كافرة لحكمها بغير ماأنزل الله قبل هذا بثمانين سنة من عام 1840م، وهذا الظن الخاطيء سببه غفلة كثير من الإسلاميين عن سبيل المجرمين، ولم أر من نبَّه مبكرا ً على كفر الدولة العثمانية ــ فيما اطلعت ــ إلا علماء الدعوة النجدية من أحفاد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهَّاب رحمه الله، فقد صرَّحوا بتكفير الدولة العثمانية مبكراً لحكمها بغير ماأنزل الله كما هو مذكور في (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) جـ 7 ــ كتاب الجهاد، وفي (الرسائل المفيدة) للشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب. وقد أشار الشيخ محمد الأمين الشنقيطي إلى خطورة دعوى اغلاق باب (الاجتهاد)، وأثر ذلك في تحكيم القوانين الوضعية في بلاد المسلمين، وذلك في تفسيره (أضواء البيان) جـ 7 صـ 580 ــ 583، فراجعه.)).
¥