تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أما بيان الوجه الثاني في علل الفساد: هو أن التلقين المفسد للصلاة عند الحنفية هو ما كان من غير المقتدي على إمامه؛ قال الكاساني: "لأن ذلك تعليم وتعلم، فإن القارئ إذا استفتح غيره فكأنه يقول: ماذا بعد ما قرأت فذكرني , والفاتح بالفتح كأنه يقول: بعد ما قرأت كذا فخذ مني" ([26]) اهـ، أما المقتدي إذا فتح على إمامه فلا تفسد الصلاة بذلك؛ لأنه مضطر إلى إصلاح صلاته فكان هذا من أعمال صلاته معنى ([27]).

و من يقرأ من المصحف في صلاته فهو يلقن منه فيكون ذلك تعلمًا منه، قال الكاساني: "لا ترى أن من يأخذ من المصحف يسمى متعلمًا فصار كما لو تعلم من معلِّم". اهـ ([28]).

ونحن نمنع بطلان الصلاة بالتلقن من الغير أصلا سواء كان الملقن مأمومًا أو من خارج الصلاة؛ فعن المُسَوّر ([29]) بن يزيد رضي الله عنه قال: " شهدت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلوات فترك شيئًا لم يقرأه فقال له رجل: يا رسول الله إنه كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلا أذكرتنيها " ([30])، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقن بعضهم بعضا في الصلاة، وعنه أنه كان إذا قام يصلي قام خلفه غلام معه مصحف فإذا تعايا في شيء فتح عليه، وعن عامر بن سعد قال: "كنت قاعدًا بمكة فإذا رجل عند المقام طيب الريح يصلي، وإذا رجل قاعد خلفه يلقنه، فإذا هو عثمان رضي الله عنه ([31])، كما أن التلقين ما هو إلا تنبيه للإمام بما هو مشروع في الصلاة فأشبه التسبيح ([32]).

كما أن تعليل الحنفية عدم فساد الصلاة إذا كان الفاتح هو المقتدي بأنه مضطر إلى إصلاح صلاته تعليل قاصر لأنه لن يحتاج إلى ذلك في القراءة المندوبة، وأدنى ما يجزئ من القراءة في الصلاة عند أبي حنيفة آية، وعند صاحبيه ثلاث آيات قصار أو آية طويلة ([33])، فما فوق ذلك لا يقال: إنه مضطر فيه إلى إصلاح صلاته، وإذا سلمنا أنه محتاج إلى إصلاح صلاته فيمكن أن يقال هذا أيضًا في حق المصلي عمومًا سواء تلقن ممن ائتم به أو من غيره، وهو ما لا يقول به الحنفية.

فبان بذلك أنه لا فرق أن يكون الفاتح على الإمام من داخل الصلاة أو من خارجها، وأنه كذلك لا فرق بين القراءة عن ظهر قلب وبين القراءة من المصحف في الصلاة.

وأما أثر ابن عباس فقد أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف بلفظ: "نهانا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن يؤم الناس في المصحف، ونهانا أن يؤمنا إلا المحتلم" وهو لا يثبت؛ ففي إسناده نَهْشَل بن سعيد النيسابوري، وهو كذاب متروك، قال عنه البخاري في: أحاديثه مناكير، وقال النسائي: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه ([34]).

وعلى فرض التسليم بثبوته، فيحتمل أن يكون المنع من باب السياسة الشرعية لا من باب الأحكام الشرعية؛ لئلا يتهاون الناس في حفظ كتاب الله مثلا، والمقرر أن الحاكم له ولاية المنع فيما يعود ضرره على الرعية، وله تقييد المباح لمصلحة معتبرة.

وغاية الأمر أن يكون مذهبًا لعمر رضي الله عنه فيكون معارضًا بما نقل عن عائشة رضي الله عنها، والصحابة إذا اختلفت لم يحتج ببعضهم، هذا إذا صح النقل عنهم جميعًا، فكيف ولم يصح.

أما ما قد يورده البعض من أن القراءة من المصحف تتنافى والخشوع؛ لأنها مُذهِبة له، لما يقترن بها من طويل نظر وفكر.

فنقول: لا نسلم أن القراءة من المصحف تُذهب الخشوع على الإطلاق؛ فالمسألة تختلف باختلاف الأشخاص، بل والأحوال أيضًا، ثم إن قضيتنا هي أثر ذلك على صحة الصلاة من عدمه، وانعدام الخشوع لا يؤثر في صحة الصلاة؛ لأنه ليس من أركانها أو من شروط صحتها؛ فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الخميصة وقال: "إنها ألهتني آنفًا عن صلاتي" ([35])، ومع ذلك لم يقطع صلى الله عليه وسلم صلاته، ولم يَذكر أن هذا يبطل الصلاة، ولم يُذكر أنه أعاد الصلاة، ولو سلمنا حتى بأن القراءة من المصحف تُذهب الخشوع فلا يتم الاستدلال بذلك على فساد الصلاة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير