: واستدلوا أيضاً بحديث أنس بن مالك 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - أنه قال: «قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ ? - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلِقَاحٍ، وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَجَاءَ الْخَبَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَأُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلاَ يُسْقَوْنَ حتى ماتوا. قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: فَهَؤُلاَءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» (26).
وجه الاستدلال: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتلهم دون أخذ رأي أولياء الدم، فلو كان العفو معتبراً في قتل الغيلة لما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بقتلهم إلا بعد الوقوف على رأي الأولياء، لاحتمال عفوهم عن الجناة. (27).
ويُناقش: بمثل ما نوقش به حديث اليهودي الذي رض رأس الجارية، ويحتمل أن الراعي المقتول ليس له أولياء يطالبون بدمه فاقتص النبي من قاتليه على اعتباره ولي من لا ولي له. (28)
الدليل الرابع:
واستدلوا أيضاً بما رواه ابن عمر 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -: أن غلاماً قُتل غيلة، فقال عمر 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -: «لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم» (29)
وجه الاستدلال: أنه لم ينقل أن عمر 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - استشار أحداً من أولياء الدم، ولو كان لهم حق العفو لرد الأمر إليهم، وطلب رأيهم، ولم يُنقل أن أحداً من الصحابة أنكر عليه، فكان إجماعاً. (30)
ونوقش: بأنه لا يلزم من عدم النقل عدم الاستشارة ولا عدم وجود من يُنكر.
وأجاب عنه ابن قدامة أيضاً بقوله: «وقول عمر: (لأقدتهم به) أي أمكنت الولي من استيفاء القود منهم» (31).
كما يمكن الجواب عنه بأن عمر 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - لم يتعرض لعفو الأولياء بإثبات ولا نفي، بل كان كلامه جواباً لمن استشكل قتل الجماعة بالواحد.
الدليل الخامس:
واستدلوا أيضاً بما رواه مسلم بن جندب الهذلي: «أن عبدالله بن عامر كتب إلى عثمان بن عفان أن رجلاً من المسلمين عدا على دهقان فقتله على ماله، فكتب إليه عثمان أن أقتله، فإن هذا قتل غيلة على الحرابة» (32).
نوقش: بأن هذا الأثر ضعيف ضعفه ابن حزم؛ لأنه من رواية عبدالملك بن حبيب، قال ابن حزم ـ رحمه الله ـ: «وهو ساقط الرواية جداً»، وكذبه ابن عبدالبر، وقد كان فقيهاً في مذهب مالك. (33)
وقال الذهبي ـ رحمه الله ـ: «الرجل أجل من ذلك ولكنه يغلط» (34).
كما أن فيه انقطاعاً بين مسلم بن جندب وعثمان. (35).
وهناك آثار أخرى مقاربة لهذا الأثر وكلها ضعيفة الأسانيد.
الدليل الخامس:
: واستدلوا من المعنى:
يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «أنهم كالمحاربين؛ لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة، كلاهما لا يمكن الاحتراز منه؛ بل قد يكون ضرر هذا أشد؛ لأنه لا يُدرى به» (36)
يمكن أن يُناقش: فيقال: إن القتل العمد العدوان غالباً لا يمكن الاحتراز منه؛ لأن القاتل غالباً يحرص على التخفي، وعدم الظهور مع حرصه على إخفاء جريمته، وذلك بالحذر الشديد عند قتل من يريد قتله، وهذا يعني أنه على قولكم سنعتبر أي قتل متعمدٍ من قبيل الغيلة، وهذا غير صحيح.
كما أن قياسكم الغيلة على الحرابة قياس مع الفارق؛ لأن الحرابة تكون بشروط معروفة تخالف الغيلة، ومنها أن يأتوا مجاهرة ويأخذوا المال قهراً، وغير ذلك مما ينافي الغيلة التي هي على وجه الاختفاء.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها ومناقشة ما يمكن من ذلك، فإني أقول: إن المسألة مشكلة، وأدلتها متجاذبة، وإن كانت النفس تميل إلى القول الأول ـ وهو أن الغيلة موجبة للقصاص ـ وذلك لعدة اعتبارات أهمها ما يلي:
¥