ولا يخفى أن بعضهم ينكر ما حرره الشيخ فينسب إليه قولاً آخر وهو أنها ميقات محتجاً بتقرير عابر للشيخ أجاب فيه سائلاً ومن عرف طريقة أهل العلم لم يعارض البيان والفتوى المحررة بتقرير عارض إثر كلمة أو درس.
والحاصل ..
الإشكال في جملة مسائل غير مسلمة عند الجمهور منها:
1 - هل يلملم المذكور كما يقول هؤلاء هو الوادي؟ أم هو الجبل؟ وإذا كان الجبل فأي جبل؟ ذكروا جبلين كل منهما يسمى يلملماً ولا يخفى أن المنطقة جبلية فيها جبال كثيرة متقاربة ومتشابهة.
أما من ذهب إلى أنه الوادي وهذا ما مال إليه الشيخ هنا فقوله لاينضبط لأن الوادي ممتد كما هو معلوم من نحو الطائف إلى قرب البحر الأحمر، والميقات محل مكاني محدد ولم يعهد ميقات بهذا الطول الشاسع.
وأما الجبل فالقريب منهما من مكة على بعد مرحلة واحدة، ويلملم المذكور على بعد مرحلتين وعلى هذا نص كثير من أهل العلم، فقرب هذا كون المراد البعيد وهو أول ما يستقبله اليماني (الجنوبي مطلقاً) ويقويه أن ما جعل بحذائه قريباً من السعدية يبعد نحو مرحلتين، ويزيد هذا قوة ما بقيت من آبار في تلك المنطقة (قريباً من الساحلية) من آثار حجاج الهند الذين كانو يأتون من الجنوب، وقد ذكر غير واحد من أهل العلم بأن أقرب المواقيت من مكة قرن، وخالفهم غيرهم بناء على ما تقدم من أمر الوادي وكذا تسمية جبل آخر فتوهم بعض أئمة الأندلس ممن لم ير تلك المناطق أن بعد يلملم 30 ميلاً.
أقول هذا وقد وقفت على كلام سبط الطبلاوي في تعليقه المطبوع مع تحفة المحتاج في شرح المنهاج للهيتمي فلينظره الباحث المستزيد ولا حاجة للإطالة بنقله.
فإن لم يسلم هذا كله بقي أن قرب يلملم محل شك، ولا يوجد دليل ظاهر بين البرهان يثبت قربه دون المرحلتين وما عندنا إلاّ الميقات المحاذي اليوم فوجب أن يوقت به لا يُتخطى لأن المرء مكلف بالإحرام عند الميقات وله أن يحرم قبله ولا يتحقق هذا الواجب إن تجاوزه للمشكوك فيه.
فإن كان الأمر كذلك لم تكن جدة ميقاتاً أبداً لا للقادم من الغرب ولا من غيرها لأنها ليست في حذاء المواقيت.
وعلى القول بأنها في حذاء المواقيت -وكلام الشيخ في التعليق أعلاه حول معنى المحاذاة حسن ولو قيده بالجهة- فإنها إنما تكون ميقاتاً للقادم من جهة السوان وبالأخص من دون خط العرض 21 شمال الاستواء.
وذلك لأن شرقي السودان منه جزء يحاذي القادم منه يلملم وهو مادون خط 21 وهو الذي فيه الموانئ السودانية اليوم: سواكن أو بورتسودان فالأول يقع على خط عرض 19.5 والثاني فوقه بقليل. أما القادم من مصر وما فوق خط 21 من السودان إن قدِّر فحذاؤه الجحفة، وحذاء الجحفة في البحر يقرب ويبعد بحسب الجهة القادم منها المرء وإن شئت تحديدها فارسم دائرة نصف قطرها بعد ما بين مكة والجحفة وانظر محل تقاطعها في البحر والبر فهو الحذاء.
وقول أهل العلم الجحفة لأهل مصر دقيق فقد كان شمال السودان إلى بلاد النوبة تبعاً لمصر.
يبين هذا المأخذ الثاني:
2 - وهو أن ما وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم محلاً للإحرام فلا يجوز لمن نوى الحج أو العمرة تجاوزه بغير إحرام، وقد استدل جماهير أهل العلم بقوله صلى الله عليه وسلم هن لهن على أن مريد الحج لايجوز له تجاوز ما جعله رسول الله وقتاً لإحرامه. فمن تجاوز ما حدده الشارع له إلى غيره فترك ميقات بلده وهو مريد للنسك وذهب إلى ميقات آخر فقد ترك واجباً ولزمه دم في قول جماهير أهل العلم، وأما ما استدل به من حديث أبي قتادة فلم أقف على طريق صحيح فيه التصريح بإحرامه من الجحفة أو حذائها، على أن ابن قدامة الذي ذكر إحرامه منها وعول عليه الشيخ هنا خرَّج فعله وفعل عائشة رضي الله عنهما بقوله: "وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ حِينَ أَحْرَمَ أَصْحَابُهُ دُونَهُ فِي قِصَّةِ صَيْدِهِ لِلْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ، إنَّمَا تَرَكَ الْإِحْرَامَ لِكَوْنِهِ لَمْ يَمُرَّ عَلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ، فَأَخَّرَ إحْرَامَهُ إلَى الْجُحْفَةِ. إذْ لَوْ مَرَّ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ تَجَاوُزُهَا مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ. وَيُمْكِنُ حَمْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي تَأْخِيرِهَا إحْرَامَ الْعُمْرَةِ إلَى الْجُحْفَةِ عَلَى هَذَا "، فلا يصح الاستدلال بأثر صاحبي محتمل،
ولو أحرم ما ندري هل فدى أم لا؟ والأصل أن رسول الله جعل المواقيت حدوداً مكانياً فلا تتعدى حدود الله.
3 - ذكر الشيخ أن جدة ليس كلها ميقاتاً فمن جاء بالطائرة لم يجيء في ميقات وهذا غريب على ما قرر لاينسجم مع كلامه الذي يقرر فيه أن جدة ميقات لحذائها يلملم، فإن مهبط الطائرة دون حذاء يلملم (قبله)! فلم لا يلبس إحرامه وينطلق إلى مكة فإذا توسط جدة أحرم لحذائه يلملم! فهو دون الجحفة ويمر على حذاء يلملم وقد رجح أن من تجاوز ميقاته لغيره فلا شيء عليه! ثم إن جماهير أهل العلم على أن له أن يحرم قبل حذاء ميقاته!! بل لم لا يحرم من المطار باعتبار حذاء قرن المنازل!! وهذا كله يدلك على اضطراب من لم يشترط الجهة في المحاذاة وعلى من سوغ تجاوز ما وقته له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واشتراط الجهة هو المتصور في اعتبار المحاذاة وإلا كان ذو الحليفة حذاء كل بعيد قادم وقرن المنازل حذاء كل قريب قادم على قول الجمهور وعلى قول من يسوغ تعدي الأبعد للأقرب فقرن حذاء الجميع.
واشتراط الجهة هو الذي تدل عليه اللغة ويدل عليه النظر فإن أي نقطتين يمكن أن توصل بينهما خطا مستقيماً متحاذييتين وعلى هذا فكل نقطتين على سطح البسيطة متحاذيتان فيبقى الضابط بُعد المحاذي به من محل اعتباره (مكة) ومن وقت له، أما محل الاعتبار فهو الحرم لمريد النسك فمريده لا يتجاوز ذلك البعد من غير إحرام، ومن وقت له من كانت في جهته، فالحذو والحذاء هنا فيه معنى الموازاة وزيادة وهي المماثلة في الجهة والبعد من مكة وعلى هذا يدل اعتبار لفظ حذى في اللغة.
وأما من زعم بأن المحاذاة تعتبر بما بين ميقاتين كما أفتى به بعض المعاصرين فقوله بعيد لا تدل عليه اللغة ولا ما وقفت عليه من كلام الفقهاء وقائله من أهل العلم المعاصرين فالله أعلم بمنزعه.
¥