يُشكل على ما سبق ظاهر حديث ابن عباس رضي الله عنهما، حيث قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يكون قوم في آخر الزمان يَخْضبون بهذا السواد كحواصل الحمام، لا يَرِيحون رائحة الجنة)). والحديث خَرَّجه أحمد في: ((المسند))، والنسائي في: ((السنن))، وأبو داود في: ((السنن)) في آخرين من طريق عبيد الله بن عمرو الرقّي عن عبد الكريم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وقد صَحَّحه الذهبي رحمه الله - كما في ((تنزيه الشريعة)) لابن عَرَّاق - والعيني رحمه الله في: ((عمدة القاري)). وأما سنده فقال عنه الحاكم -كما في ((الترغيب والترهيب)) للمنذري -: ((صحيح الإسناد)). وقال ابن مفلح رحمه الله في: ((الآداب الشرعية)): "إسناده جيد ". وقال العراقي رحمه الله في: ((المغني عن حمل الأسفار)): "إسناده جيد ". وقال ابن حجر رحمه الله في: ((فتح الباري)): "إسناده قوي، وصححه ابن حبان "، وتَبِعهم آخرون.
وحَلُّ إشكاله من جهتين:
الأولى: ثبوته. حيث طَعَن في صحته جماعة، ومنهم: ابن الجوزي رحمه الله في: ((الموضوعات)) بقوله: "هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وقال القاري رحمه الله في: ((مرقاة المفاتيح)): "قال ميرك: وفي إسناده مقال ". ومدار إسناده على: عبد الكريم، قال ابن الجوزي في: ((الموضوعات)): "والمُتَّهم به: عبد الكريم بن أبي المخارق أبو أمية البصري. قال أيوب السختياني: (والله إنه لغير ثقة). وقال يحيى: (ليس بشيء). وقال أحمد بن حنبل: (ليس بشيء، يُشبه المتروك). وقال الدارقطني: (متروك) "ا. هـ.
لكن قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في: ((القول المسدد)): "أخطأ ابن الجوزي، فإن عبد الكريم الذي هو في الإسناد هو ابن مالك الجزري الثقة المُخرَّج له في الصحيح "ا. هـ. قال ابن عَرَّاق رحمه الله في: ((تنزيه الشريعة)) مُعَقِّباً: "وسبق الحافظ ابن حجر إلى تخطئة ابن الجوزي في هذا الحديث: الحافظُ العلائي … وكذلك قال الذهبي في: ((تلخيص الموضوعات)) انتهى المراد.
ويُؤيِّد كونه: ابن أبي المخارق - ما خَرَّجه الطبراني في: ((معجمه)) والحكيم الترمذي في: ((المنهيات)) من طريق: (عبد الكريم بن أبي المخارق أبي أمية عن مجاهد عن ابن عباس به) كذا ورد منصوصاً على اسمه، وكذلك عند الخلال في كتاب: ((الترجُّل)).
ثم الحديث مُخْتَلَف في كونه مرفوعاً أو موقوفاً، قال الحافظ في: ((الفتح)) بعد ذكره للحديث: "وإسناده قوي إلا أنه اختُلِف في رفعه ووقفه "ا. هـ. ولعل مراده: وَقْفه على مجاهد - أي من قوله رحمه الله لا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم -، ويَشْهد لذلك ما أخرجه عبد الرزاق في: ((مصنفه)) عن معمر عن خلاد بن عبد الرحمن عن مجاهد به. وعليه يُشْكل قول الحافظ في: ((الفتح)): "وعلى تقدير ترجيح وقفه، فمثله لا يقال بالرأي فحكمه الرفع "ا. هـ. لأن ما قاله صالحٌ في حَقّ موقوفات الصحابة لا التابعين، قال العراقي في: ((الألفية)):
يقال رأياً حُكمُه الرَّفعُ على
فالحاكمُ الرفعَ لهذا أثْبتا
وما أتى عن صاحبٍٍ بحيثُ لا
ما قال في (المَحْصولِ) نحوُ مَنْ أَتَى
والثانية: دلالته. حيث أُجيب عنه بأجوبة:
ـ منها: قول القرطبي رحمه الله في: ((المفهم)): "وقد روى أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يكون في آخر الزمان قوم يَصْبغون بالسواد، لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها "، غير أنه لم يُسْمع أن أحداً من العلماء - وفي نسخة: الصحابة رضي الله عنهم - قال بتحريم ذلك، بل قد روي عن جماعة كثيرة من السلف أنهم كانوا يَصْبغون بالسواد"ا. هـ.
ـ ومنها: قول ابن الجوزي رحمه الله في: ((الموضوعات)): "وإنما كرهه قوم لما فيه من التدليس، فأما أن يرتقي إلى درجة التحريم إذ لم يدلّس به: فيجب به هنا الوعيد، فلم يقل بذلك أحد. ثم نقول على تقدير الصحة: يحتمل أن يكون المعنى: لا يريحون ريح الجنة لفعلٍ يصدر منهم أو اعتقاد، لا لعلّة الخضاب، ويكون الخضاب سيماهم: فعرّفهم بالسِّيما كما قال في الخوارج: (سيماهم التحليق)، وإن كان تحليق الشَّعر ليس بحرام "ا. هـ.
ـ ومنها: ما حكاه المباركفوري رحمه الله في: ((تحفة الأحوذي)) (/-) بقوله: "إن الوعيد الشديد المذكور في هذا الحديث: ليس على الخضب بالسواد، بل على معصية أخرى لم تُذْكَر - كما قال الحافظ ابن أبي عاصم -، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد)) وقد عُرفتْ وجود طائفة قد خضبوا بالسواد في أول الزمان وبعده من الصحابة والتابعين وغيرهم رضي الله عنهم. فظهر أن الوعيد المذكور ليس على الخضب بالسواد، إذ لو كان الوعيد على الخضب بالسواد لم يكن لذِكْر قوله (في آخر الزمان) فائدة؛ فالاستدلال بهذا الحديث على كراهة الخضب بالسواد ليس بصحيح "ا. هـ.
منقول للفائدة ...
ـ[أبو يوسف التواب]ــــــــ[10 - 04 - 07, 02:15 م]ـ
- في الموضوع ثلاثة كتب مهمة:
1. إتحاف الأمجاد للبهلال
2. صبغ الشعر بالسواد
3. ما كتبه الدبيان في "أحكام الطهارة".
وعلى ما ذكرت ملاحظتان:
الأولى: هل الراوي عن أبي الزبير هو الليث بن سعد أم ليث بن أبي سليم؟ (خلاف طويل).
الثانية: يقولون: ما الفائدة من حديث ابن عباس إذا لم تذكر فيه المعصية؟ ولماذا لم يذكر لهم وصف سوى الخضب بالسواد مع كثرة من يصنعه؟!! مع العلم أن كثيراً مما روي عن الصحابة في ذلك لا يثبت سنده.