- ثم ظهر بالأندلس ابن حزم -رحمه الله - فبعث مذهب أهل الظاهر من جديد , ولم يكن له بهذه البلاد ذكر , حيث ظهر بالمشرق , فلما انتشر أمره , قام في وجهه الناس , وتعرض لمضايقات جمّة , أدّت به إلى الهجرة , ولم ينفعه أن نصرة بعض الولاة , وكان أشد الفقهاء المالكيين عليه أبا الوليد الباجي , الذي أعلن عليه الحرب , حتى اضطر إلى الرحيل من جديد , وقد بلغ الأمر أم أحرقت كتبه , لجرأته في الحق , ورفضه التقليد بشدّة , وتعرضه بالنقد لبعض أئمة المسلمين , واستمر الردّ على ابن حزم والتهجّم عليه قرناً من الزمن , ومازال.
- هذه لمحة عما يلحق العلم الشرعي متى ربط بالسياسات التي شانها التقلّب , لكني أستغرب أن تصدر عن بعض العلماء الموثوقين الصالحين عبارات لا تليق , فتفهم من كلامهم وهم بصدد التأريخ للمذاهب , أنهم ينظرون إليها باعتبارها مِللاً شتّى , قال القاضي عياض -رحمه الله-:" فالتزم الناس بها (يعني الأندلس) هذا المذهب , وحملوا بالسيف عن غيره جملة , وأدخل قوم من الراحالين والغرباء شيئاً من مذهب الشافعي وأبي حنيفة واحمد وداود , فلم يمكنوا من نشره , فمات بموتهم إلاّ من تدين به في نفسه , ممن لا يؤبه لقوله" (المدارك للقاضي عياض)
لكأنّ الأمر يتعلق بحرب بين المسلمين والكفار , وتالله أيكون ابن حزم ممن لا يؤبه لقوله ?.
- وبدخول الأتراك العثمانيين إلى الجزائر , أصبح المذهب الحنفي هو المذهب الرسمي , وكان مدعاة للإهتمام به لا سيما وأن العثمانيين في حاجة إلى فقهاء وقضاة أحناف , فانتقل بعض الناس إليه حباً فيه أو طمعاً في متاع الدنيا , لكن تأثير هذا المذهب كان محدوداً جداً , وما زالت بعض المساجد في العاصمة والبليدة وغيرها تعرف بأنها مساجد الأحناف , وقد جاء في ترجمة محمد بن المسبح القسنطيني (ت: 1242) أنه كان مالكي المذهب, فحوله عثمان باي إلى المذهب الحنفي وولاه الخطابة بجامع سوق الغرب , وبه كان يصلي الأمير , وولي قضاء قسنطينة مراراً " (تعريف الخلف برجال السلف لمحمد الحفناوي)
وقد حمل ذلك بعض أهل العلم على توسيع دائرة بحثهم وثقافتهم إلى غير المذهب المالكي , كما فعل أبو راس الناصري الذي درس فقه الأحناف , وغيرهم خلال رحلاته , وأسّس مكتبة المذاهب الأربعة , وألّف عدّة كتب في اختلاف الأئمّة , وفقه غير المالكية.
وقد نشط تدريس فقه المصنفات وغيره من العلوم الشرعية في هذا العهد الذي برزت فيه مدارس , لكنها لم ترق من حيث التنظيم إلى مرتبة فاس والقيروان , والأزهر , ومنها مدرسة مازونة , ومعهد القيطنة , ومعسكر , وتلمسان , وغيرها , وإن كان بعض علمائها لا يقلون مكانة عن أضرابهم في تلك المعاهد , وقد نشأ تنافس حاد بين منطقة الراشدية (معسكر وما حولها) وتلمسان , ومن أبرز المعتنين بالفقه في هذه المرحلة الشيخ مصطفى الرمّاصي (ت:1137) من منطقة الراشدية , وهو صاحب الحاشية المعروفة على شرح التّتائي على مختصر خليل , وإنما ذكرته لأن حاشيته هي التي اعتمد عليها الدّردير في شرحه المعروف , كما اعتمد عليها الشيخ البناني الفاسي.
وقد كان أول من أدخل كتاب الدردير إلى الجزائر محمّد بلقندوز المستغانمي تلميذ الدردير , الذي حكى عن شيخه أنّه كان يعتبر الرماصي من المحققين , ويقول إن حاشيته تغنيني (راجع الجزائر في التاريخ تأليف ناصر الدين سعيدوني والمهدي البوعبدللي).
وما يزال هذا الكتاب هو عمدة المدرسين لمختصر خليل في بلادنا إلى اليوم , ولا يُ ستبعد أن يكون اعتماده ناتجاً عن كون الدردير اهتمّ بحاشية الرماصي في شرحه من جهة , وكذا الانتقادات التي وجهها الرماصي للخرشي شارح المختصر, حتى أنه ألف في ذلك رسالة أحصى فيها أخطاءه , وقد قال لبعض تلامذته:" وأراك أيها السائل تحتفل بكلام عبد الباقي الزرقاني , وذلك بمعزل عن التحقيق , لأنه شرحه وشرح الخرشي لا نكترث بهما في بلادنا الراشدية, لعدم تحقيقهما , وعمدتهما كلام علي الأجهوري , وهو كثير الخطأ " (الجزائر في التاريخ).
مع أن منهجية الخرشي أيسر لفصله بين المصنف والشرح , وخلوه من المبالغة في التقديرات , وقد احتدمت المساجلات بين فقهاء الراشدية وتلمسان بسبب هذا الأمر.
وقد كانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تلتزم فيما يبدو المذهب المالكي في الفتاوى التي كان يجيب عنها الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- كما يؤخذ ذلك مما هو مدون منها في آثاره.
والله أعلم