- ثم لما انقضت أيام منى مضى إلى مكة، فطاف بالبيت طواف الوداع، وأسقطه عن الحائض.
هكذا حج النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا كانت صورة وهيئة حجته ..
ومراعاة لذوي الحاجات من مرضى وضعفة، وأصحاب تجارة كالرعاة، وأصحاب خدمة للحجيج كالسقاء: جعل لهم أن يتركوا بعض السنن الواجبة. تخفيفا عليهم، ولأنهم فعلوا الأصول والأركان.
لكن السواد الأعظم كانوا معه، يحجون كحجته، فلا يتحركون إلا بحركته، يفعلون كفعله: فلا ينفرون من عرفة إلا معه بعد الغروب، ولا يدفعون من مزدلفة إلا بعد الفجر، ولا يرمون الجمار إلا بعد زوال الشمس، ولا يبيتون إلا بمنى، ولا ينفرون إلا بعد طواف الوداع، ولا يتعجلون إلا في اليوم الثاني عشر بعد الزوال، لا قبله.
* * *
وقد كان من العلماء من أفتى بفعل أشياء، هي خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم وفعله؛ كونهم فهموا أنها من السنن المستحبة غير الواجبة، فأجاز بعضهم الرمي قبل الزوال، ولم يوجب بعضهم الدم على من نفر من عرفة قبل الغروب، ومن مثل هذا، لكن مع كل ذلك فقد بقيت سنة النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة بينة، حفظها الحفاظ على السنة النبوية، والعاملون بها من المؤمنين.
وفي العقود الأخيرة، مع تطور وسائل النقل: برزت مشكلات، نتج عنها ضعف العمل بصورة الحجة النبوية، وتعذرها في كثير من الأحوال، فصار:
- كثير من الناس لا يبيت بمنى ليلة التروية وليالي التشريق؛ لأنه لا يجد مكانا، أو لأنه لا يملك مالا يلحقه بحملة حج، وهو متشوق لأداء الفريضة.
- وكثير من الناس لا يبيت بمزدلفة لتعذر الوصول إليها، لانسداد الطريق بكثرة المركبات.
وهذه الأعذار هي محل اتفاق بين العلماء؛ فلا يوجبون على أحد من هؤلاء فدية، ولا يحملونه إثما؛ لأنه ليست مما عملت أيديهم، ولأنهم لا يملكون حيلة، ولا يهتدون سبيلا، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وهو الغفور الرحيم.
فكل الذي حدث يباعد ما بين الناس وبين صورة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك أمور تباعدهم أكثر من ذلك؟!!.
- فالقول بجواز الدفع من عرفة قبل الغروب، بدون أي حرج .. !! ..
- والقول بجواز الرمي قبل الزوال مطلقا .. !!:
تزيد في الشقة ما بين الناس وبين سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتباعد، حتى يأتي يوم يكون لهم فيه حج غير حجه صلى الله عليه وسلم، ولن يكون حينذاك لقوله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم) معنى، ولا فائدة؛ إذ لا مطبق له، مع تزايد الأعداد والمشكلات.
وقد كان من المشهور من عمل الناس، اتباعا للسنة، تعجلهم في يومين، بعد ظهر اليوم الثاني عشر، ومع تجويز الرمي قبل الزوال مطلقا، صار الناس يبتغون التعجل منذ الساعة الثانية عشرة ليلة الثاني عشر، أي قبل الوقت الفعلي بثنتي عشرة ساعة .. ؟!!.
ولو صار الناس بهذا الاتجاه: سيأتي يوم ينفرون فيه، منذ ليلة الحادي عشر .. بعدما يقضوا يوم النحر وليلته، فيكونوا بذلك متعجلين قبل اليوم الثاني عشر، وهو الوقت المقدر شرعا: بيوم ونصف اليوم؛ أي يتعجلون في نصف يوم، لا في يومين .. !!.
وذلك برمي يومين في يوم، في أحدهما، وقد رخص فيه، ويكون أحدهما هو اليوم الأول .. !!.
ثم لو نفر الناس قبل الغروب، فمتى سينفرون؟.
ليس لذلك حد ينضبط إلا انقضاء الخطبة والصلاة، ثم بعدها يبدأ الناس بالدفع؛ أي منذ الساعة الثانية ظهرا، قبل الغروب بخمس ساعات أو أربع، فإذا هم بمزدلفة نهارا .. ؟!!.
فيستطيلون المقام بها، فيدفعون أول الليل بعد الصلاتين، فإذا هم بمنى عشاء، ثم يرمون بعد العشاء، ثم ينزلون مكة، فيطوفون قبل منتصف الليل، ويحلقون، ويهدون .. ؟!!.
فمن أجاز الدفع قبل الغروب من عرفة، يلزمه أن يجيز كل هذه الأنساك: أن يؤتى بها في غير وقتها؛ إذ أدلتها ليست بأقوى من أدلة وجوب البقاء بعرفة حتى الغروب ..
وهكذا يمضى الناس بمثل هذه الأقوال ينتهكون سنة النبي صلى عليه وسلم، ويخالفون قوله: (خذوا عني مناسككم)، حتى يأتي يوم لا يتبع فيه أحد السنة، وقد تخفى فتموت.
* * *
إن مشكلات الحج، وما يلقاه الناس من عنت في الحج، ليس مرده إلى الفتوى، وإلا لكانت كل فتاوى الحج مشكلة، وسببا في الضنك، والحرج، والهلاك .. !!.
أليست الفتوى، مجمعة ومتفقة، توجب البقاء في عرفة، وطواف الإفاضة .. وتبطل حج من لم يقف، ولا تصحح حج من لم يطف؟ ..
الجواب: نعم بالاتفاق ..
حسنا: أفليس يقع فيهما المشقة والعنت الشيء الكثير، وربما مات جراء ذلك الضعفة والعجزة؟.
فهل سيحمل هذا على إسقاط هذه ((الأركان)) أيضا؛ لأن فيها الزحام والهلاك؟!!!.
بقي أن نقول:
ما كانت السنة ولا العمل بها سببا في الهلاك ألبتة؛ لأن إثبات أنها سبب، اتهام للشرع المنزل من الله تعالى الرحيم الغفور، الذي يسر لعباده دينهم: أنه شرع لهم ما فيه هلاكهم. وهذا لا يقوله مسلم.
إنما سبب الهلاك والموت سوء تصرف الناس، فعليه إذن: تعديل وتحسين هذه التصرفات. وقد شرعت الجهات المسئولة بهذا، فنظمت السير وأدارت تدفق الحجيج عند الجمرات، ومنذ ذلك لم يحدث شيء مما كان يحدث من قبل؛ لما كان الحجاج يتدفقون إلى الجمرات بغير هدى.
في المسألة مناقشات فقهية جرت في مبحث آخر عنوانه: "الرمي قبل الزوال .. من يحتمل الوزر"، وأما هذا المقال فيعنى ببيان أثر التوسع في القول بجواز الرمي قبل الزوال مطلقا، والدفع قبل الغروب: أن آخره ضياع منسك النبي صلى الله عليه وسلم.
¥