تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أنه قد جاء في حديث عتبان بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: "يا رسول الله، قد أنكرت بصري، وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم، فلم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم".

ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص له في ترك صلاة الجماعة أي: أباح له تركها، وقد اقترن بهذا الحكم وصفان اثنان: العمى في قوله: "أنكرت بصري"، وحيلولة السيل بينه وبينهم في قوله: "سال الوادي الذي بيني وبينهم، فلم أستطع أن آتي مسجدهم"، وقد ألغى المخالف اعتبار الوصف الثاني، مع أنه وصف معتبر، جرت عادة الشارع باعتباره في موارده وأحكامه، ومن ثم لا يصح توسيع الحكم بحذفه، والقول بجواز ترك صلاة الجماعة للأعمى الذي لم تحل السيول بينه وبين المسجد.

قال الإمام ابن حبان -رحمه الله- في صحيحه (413/ 5): "باب ذكر العذر السادس وهو خوف الإنسان على نفسه وماله في طريقه إلى المسجد".

وللفائدة انظر: [مبحث تنقيح المناط في روضة الناظر لابن قدامة: (803/ 3)].

قال جلال -غفر الله له-: وبناء على ما سبق فلا تعارض بين الحديثين حتى يقال بصرف الأمر الوارد بإجابة النداء، فحديث أبي هريرة رضي الله عنه يدل على أن العمى ليس عذرا في التخلف عن صلاة الجماعة، وحديث عتبان بن مالك -رضي الله عنه- يدل على جواز التخلف عنها عند حيلولة السيول بين المرء والمسجد.

((الجواب الثاني)): أنه ليس في الحديث تعيين النداء الذي يجب إجابته، ومن ثم فيحمل على نداء الجمعة، وذلك لأنه النداء الذي يجب إجابته باتفاق.

ونوقش هذا الجواب:

بأن الحديث جاء عاما في كل نداء، ومأخذ العموم من قوله: "هل تسمع النداء بالصلاة "، فقوله: النداء مفرد محلى بـ أل الاستغراقية، والقاعدة في الأصول: [أن المفرد المحلى بـ أل الاستغراقية يفيد العموم]، وقصر اللفظ العام على بعض أفراده ضرب من التأويل، والقاعدة في الأصول: [أنه يجب العمل بالألفاظ على ظاهرها، ولا يجوز تأويلها إلا بدليل]، ولا دليل!، ومما يشهد لهذا أيضاً سياق الخبر!.

قال أبو الوليد ابن رشد -رحمه الله- في بداية المجتهد (333/ 1): " وأما أولئك فزعموا: أنه يمكن أن يحمل حديث الأعمى على نداء يوم الجمعة؛ إذ ذلك هو النداء الذي يجب على من سمعه الإتيان إليه باتفاق، وهذا فيه بعد -والله أعلم-؛ لأن نص الحديث هو: أن أبا هريرة قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له، فيصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال: "هل تسمع النداء بالصلاة؟ فقال: نعم، قال: فأجب"، وظاهر هذا يبعد أن يفهم منه نداء الجمعة ".

((فائدة متعلقة بحديث عتبان -رضي الله عنه-)):

جاء حديث عتبان بن مالك -رضي الله عنه- عند الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في المسند بلفظ آخر، قال -رحمه الله-: حدثنا سفيان، عن الزهري، فسئل سفيان: عمن؟ قال: هو محمود -إن شاء الله- أن عتبان بن مالك كان رجلا محجوب البصر، وأنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم التخلف عن الصلاة، فقال له: " هل تسمع النداء؟ "، قال: نعم، قال: فلم يرخص له وجاء عند غيره بلفظ: "ما أجد لك عذرا إذا سمعت النداء".

وقد قدح في ثبوته الإمام الشافعي-رحمه الله- من جهة أن سفيان بن عيينة وهم فيه، ومأخذه في ذلك ما جاء في الروايات الأخرى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه رخص لعتبان بن مالك-رضي الله عنه-، وقد وافقه على ذلك البيهقي -رحمه الله-، وذكر أن اللفظ الذي رواه ابن عيينة إنما هو في قصة ابن أم مكتوم الأعمى.

انظر: [122/ 4].

قلت: هذا حديث صحيح، رجاله ثقات، وإسناده متصل، وكلام الشافعي -رحمه الله- ليس بشيء، فسفيان بن عيينة: ثقة ثبت حافظ إمام!، والقاعدة في الأصول: [لا يجوز توهيم الراوي الثقة إلا بدليل]، وما ذكره -رحمه الله- من ورود الروايات الأخرى بترخيص النبي -صلى الله عليه وسلم- لعتبان لا يصلح أن يكون دليلا، وذلك لعدم وجود التعارض، فمحل الترخيص إنما هو في حال حيلولة السيل بينه وبين المسجد فقط، وما عدا هذه الحال فيجب عليه الصلاة في الجماعة، وكونه ورد بلفظ قريب من لفظ حديث أبي هريرة رضي الله عنه لا يدل على الوهم، فمن جائز عقلا تعدد القصة على نحو متقارب في اللفظ، ولهذا شواهد من السنة الثابتة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير