قال الشافعي رحمه الله تعالى: (لم أحفظ عن فقهاء الإسلام أنّهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد) (32). ومما يدلّ على ذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم أمّر أبا بكر على الحجّاج سنة تسع وهو كان يخبرهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لهم وما عليهم وأنّه بعث آحادا إلى الملوك ونصب آحاد الولاة في البلدان (35). إضافة إلى عموم الأدلة على حجيّة السنّة من غير فرق بين متواتر وآحاد.
رابعا: حجيّة خبر الواحد في الإعتقاد
يدلّ على ذلك أيضا الإجماع القطعي، قال ابن القيم: (فهذا لا يشك فيه أحد ممّن له أقلّ خبرة بالمنقول) (34)، وقال: (ولا فرق بين أبواب الإعتقاد والأحكام ومن فرّق فهو مطالب بالدليل، فإن قالوا خبر الواحد يفيد الظنّ الغالب دون اليقين، قيل ذلك هو المطلوب، وهذه الأخبار مع إفادتها الظنّ، فهي أقوى من جزم المتكلّمين المستند إلى القضايا العقليّة، التي هي في الواقع زيف وأوهام) (35).
خامسا: حجيّة خبر الواحد في كلّ الأبواب
ولا يضرّ الخبر إذا صحّ كونه فيما تعمّ به البلوى، ولا كونه في الحدود والكفارات، ولا كونه زيادة عمّا في القرآن والسنة المتواترة (36).
المطلب الرابع: شروط حجّية خبر الواحد
خبر الواحد الذي تقوم به الحجّة هو الحديث الصحيح أو الحسن، وتعريفه عند أهل الحديث: (ما اتّصل سنده بنقل العدل الضّابط عن مثله إلى النّبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن معلّلا ولا شاذّا).
الضّابط ضبطا تاما أو خفيفا (فيعم الثقة والصدوق)، والتّّعليل إظهار قادح خفي بجمع طرق الخبر، والشّذوذ انفراد الثّقة بخبر تدلّ القرائن على أنّه غلط فيه (37)، ويتعلّق بهذه الشّروط مسائل منها:
أولا: لا حجّة في الخبر المرسل
والخبر المرسل هو الذي لم يتّصل سنده، وهو مردود للجهل بالسّاقط في الإسناد، هذا مذهب الشافعي وأحمد (38)، ومن الفروع الفقهية لهذه المسالة: إيجاب المالكيّة والأحناف القضاء على من أبطل صوم النّافلة استدلالا بخبر الزهري عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: (اقضيا مكانه يوما آخر) (39). وهو مرسل لأنّ الزهري لم يدرك عائشة رضي الله عنها.
ثانيا: لاحجّة في خبر المجهول
اتّفقوا على ردّ رواية المتّهم والضّعيف، واختلفوا في رواية المجهول فقبل روايته الأحناف وردّها الجمهور (40)، ومن الفروع الفقهية لهذه المسالة: تجويز الأحناف الوضوء بالنبيذ استدلالا بخبر أبي يزيد عن ابن مسعود أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في النبيذ: (ثمرة طيّبة وماء طهور) (41). وأبو يزيد مجهول لا يعرف إلاّ بهذا الحديث.
ثالثا: حكم زيادات الثقات
اختلف الأصوليون في حكم زيادات الثقات اختلافا كبيرا، والصّواب في ذلك مذهب أهل الحديث القاضي بأنّ القبول والردّ يختلف باختلاف القرائن (42). ومن الفروع الفقهية لهذه المسألة: إيجاب الأحناف وابن المنذر غسل الإناء الذي ولغ فيه الهرّ (43)، استدلالا بخبر قرّة بن خالد عن ابن سيرين عن ابي هريرة مرفوعا: (طهور الإناء إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرّات الأولى بالتراب، والهرّ مرّة أو مرّتين) (44).
وهذا خبر معلّ لأنّ الصواب في الزيادة الأخيرة أنّها من قول أبي هريرة، وليست من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، كذا روى الخبر أيّوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة (45).
رابعا: الرّواية بالمعنى
الرّواية بالمعنى لا تقدح في الخبر، لكن إذا تبيّن أ أنّ تصرّف الرّاوي أدى إلى إنقاص معنى أو زيادته في الحديث، فإنّ ذلك يعتبر قادحا في روايته ويكون الخبر معلّلا (46)، كمن يستدلّ على نسخ استحباب الوضوء ممّا مسّت النّار برواية شعيب بن أبي حمزة عن محمّد بن المنكدر عن جابر قال: (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلّم الوضوء ممّا مسّت النّار) (47). وغيره قال في روايته: (أنّه أكل خبزا ولحما ثمّدعا بوضوء فتوضّأ ثمّ صلّى الظّهر، ثمّ دعا بفضل طعامه فأكل، ثمّ قام إلى الصّلاة ولم يتوضّأ) (48) وهذا اللّفظ لا يدلّ على النسخ ولا ينفي الإستحباب.
.............................. .........................
الهامش
9 – انظر الرّسالة للشافعي (50).
10 – تفسير القرطبي (5/ 17).
11 - الرّسالة للشافعي (19) مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/ 144) (17/ 380).
¥