تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إن نظرية التعسف في استعمال الحق تمثل مقوما من مقومات الحكم على أفعال المكلفين، ذلك أنه إذا كان مآل الفعل معيارا موضوعيا يوازن به بين مصلحة أصل الفعل وبين ما يلزم عنه من المفاسد، فإن مقصد المكلف هو المعيار الذاتي والنفسي الذي يستجلى به باعث المكلف على ما صدر منه من أفعال.

ولا يفهم معنى الذي أنف إلا بالعودة إلى ما قرره الشاطبي رحمه الله من قواعد تندرج تحت أصل المآل ذلك أنه رحمه الله حين تناول اعتبار المآل وما يقوم عليه كاصل مقصدي، حدد مجموعة من القواعد التي هي في الحقيقة قواعد ترجيحية وليست أصلا بالمفهوم الأصولي لمعنى الأصل الذي هو الدليل أو ما يبنى عليه الحكم، وقد تناول ضمن هذا الأصل:

1 - قاعدة سد الذرائع.

2 - قاعدة الحيل.

3 - قاعدة الاستحسان.

4 - قاعدة مراعاة الخلاف.

ولا يهمنا هنا التفصيل في كل قاعدة على حدة، إنما الذي يهمنا هو الحديث عن قاعدة مراعاة الخلاف في علاقتها بالتعسف، ولا يستقيم الحديث عن هذا الموضوع دون الحديث عن علاقة مراعاة الخلاف بالاستحسان.

وبرجوعنا إلى ما كتبه الشاطبي رحمه الله عن الاستحسان في الاعتصام والموافقات، نجد أنه يقرر أن الاستحسان هو تقديم للاستدلال المرسل على القياس عن غلوه، ومبناه على اعتبار المآل في جلب المصالح أو درء المفاسد على الخصوص من خلال الاستثناء من الحكم العام الذي مقتضاه المنع، وهذا لا يخرج عن إطار التيسير الذي يندرج ضمن مقصدين جوهريين هما: المصلحة والعدل.

وقد قرر رحمه الله في الاعتصام أن مراعاة الخلاف هي من جملة الاستحسان، ووجه العلاقة هو أن الاستحسان استثناء من المنع إلى الإباحة للتوسعة أو اعتبارا للمصلحة أو الضرورة، أو اعتبارا للعرف، ومراعاة الخلاف هو إعمال دليل المخالف وترجيح له على دليل المذهب، والذي اقتضى هذا الترجيح هو الحفاظ على المصلحة التي ستفوت وهي أكبر من المفسدة التي من أجلها كان المنع إذا ما قورنت بها، فمتى رأى المجتهد أن تعدية الحكم بالمنع بعد وقوع الفعل مؤداه إلى مناقضة قصد الشارع عدل عن دليله إلى دليل آخر تحريا لمقصد العدل.

إن العلاقة التي نريد جلاءها هنا بين قاعدة مراعاة الخلاف والتعسف في استعمال الحق تتمثل في أن اعتبار هذه القاعدة والعمل بها يدخل في النظر في مآلات التطبيق من حيث هو مصلحة مقصودة شرعا، وما أجدر المالكية بالاعتداد بقول شمس الئمة السرخسي الحنفي: " كان شيخنا الإمام يقول الاستحسان ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس وقيل الاستحسان طلب السهولة في الأحكام فيما يبتلى فيه الخاص والعام وقيل الأخذ بالسعة وابتغاء الدعة وقيل الأخذ بالسماحة وابتغاء ما فيه الراحة وحاصل هذه العبارات أنه ترك العسر لليسر وهو أصل في الدين قال الله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. المبسوط، 10/ 250.

من هنا فالمجتهد في نطاق المذهب المالكي إذا صادف نازلة نشأ عنها واقع لا يخضع لدليل مذهبه، فإنه يعتد بهذا الواقع والآثار الناتجة عنه ما دام ذلك يخضع لدليل مذهب مخالف، ويشهد لهذا قول الشاطبي رحمه الله:" وإذا ثبت هذا، فمن واقع منهيا عنه، فقد يكون فيما يترتب عليه من الأحكام زائد على ما ينبغي بحكم التبعية لا بحكم الأصالة، أو مؤد إلى أمر أشد عليه من مقتضى النهي، فيترك وما فعل من ذلك، أو نجيز ما وقع من الفساد على وجه يليق بالعدل، نظرًا إلى أن ذلك الواقع وافق المكلف فيه دليلًا على الجملة، وإن كان مرجوحًا، فهو راجح بالنسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه؛ لأن ذلك أولى من إزالتها مع دخول ضرر على الفاعل أشد من مقتضى النهي، فيرجع الأمر إلى أن النهي كان دليله أقوى قبل الوقوع، ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع، لما اقترن به من القرائن المرجحة، كما وقع التنبيه عليه في حديث تأسيس البيت على قواعد إبراهيم، وحديث ترك قتل المنافقين، وحديث البائل في المسجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتركه حتى يتم بوله؛ لأنه لو قطع بوله لنجست ثيابه، ولحدث عليه من ذلك داء في بدنه، فترجح جانب تركه على ما فعل من المنهي عنه على قطعه بما يدخل عليه من الضرر، وبأنه ينجس موضعين وإذا ترك، فالذي ينجسه موضع واحد.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير