الأول: أدلة نصية متفق عليها، كـ (الكتاب) و (السنة).
ومن أمثلة الأدلة النصية من الكتاب قوله تعالى: وأحل الله البيع، وقد شرعه الله لتحقيق مصالح العباد بالتبادل.
ومن أمثلة الأدلة النصية من السنة قول رسول الله r: " تناكحوا تناسلوا ... "، وقد شرع النكاح لتحقيق مصلحة العباد ي الاستقرار واستمرار النوع البشري.
والثاني: أدلة اجتهادية، كـ (الإجماع) و (القياس).
ومن أمثلة الإجماع: الاتفاق على أن تحريم الربا مُعلَّل، وإن اختلفت أقوال الفقهاء في بيان على تحريم العلة.
فعند فقهاء الحنفية والحنابلة: علة تحريم الربا الكيل والوزن، وبمعنى أن كل ما يدخله القياس يجري في الربا، وإذا تمت مبادلته بجنسه وجب شرطان: التماثل والتقابض، وإذا تمت مبادلته بغير جنسه وجب شرط واحد، وهو: التقابض.
وعند فقهاء الشافعية: علة تحريم الربا الثمنية والطعم، فكل ما كان ثمناً أو طعاماً يجب عند مبادلته بجنسه شرطان: التماثل والتقابض، وعند مبادلته بغير جنسه وجب شرط واحد، وهو: التقابض.
وعند فقهاء المالكية: على تحريم الربا الثمنية والقوت، فكل ما كان ثمناً أو قوتاً يدَّخر يجب عند مبادلته بجنسه شرطان: التماثل والتقابض، وعند مبادلته بغير جنسه وجب شرط واحد، وهو: التقابض.
ومن أمثلة القياس: تحريم التدخين لعلة الضرر والإضرار المنهي عنه شرعاً، والعلة متفق عليها، واندارج ضرر التدخين فيها متفق عليه في هذا الزمان بعد أن تحقق الضرر وثبت عن طريق العلم.
مراتب مقاصد الشريعة
المقاصد الشرعية تتفاوت مراتبها لتَبَايُن آثارها؛ لذا جعلها العلماء على مراتب، واستقر الاصطلاح على أنها مراتب ثلاث:
أُوْلاها: مرتبة الضَّرَوْرِيَّات. والكلام فيها كما يأتي:
تعريف الضروريات: يقول المَحَلِّي: (هي ما تصل الحاجة إليه إلى حَدّ الضرورة) (15)، ويقول ابن عاشور: (هي التي تكون الأمة بمَجْموعها وآحادها في ضرورة إلى تَحْصِيْلها) (16).
ومعنى الضرورية: (أنها لا بدَّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فُقِدت لم تُجْرَ مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة: فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين) (17).
وقد حُصِرَتْ تلك الضروريات عند عامة العلماء في خمس أو ست، وهي: الدين، والنفس، والنسب أو النسل، والعقل، والمال، والعِرْض.
وللمحافظة على هذه الضروريات أقام الشرع حدوداً من العقوبات:
فحَدُّ الردة في مقابل حفظ الدين.
وحَدُّ القتل قصاصاً في مقابل حفظ النفس.
وحَدُّ الزنى في مقابل حفظ النسب أو النسل.
وحَدُّ شرب الخمر في مقابل حفظ العقل.
وحَدُّ السرقة في مقابل حفظ المال.
وحَدُّ القذف في مقابل حفظ العِرْض.
دليل الضروريات: ويَرْجع إلى الاستقراء التام لأدلة الشريعة المُتَّفَق عليها مع اتفاق العقول الصحيحة على ذلك.
يقول الغَزَّالي: (وتحريم تَفْوِيْت هذه الأصول الخمسة يَسْتحيل أن لا تَشْتمل عليه مِلَّة ولا شريعة أُرِيْد بها إصلاح الخَلْق. وقد عُلِم بالضرورة كونها مقصودة للشرع لا بدليل واحد وأصل معين، بل بأدلة خارجة عن الحصر) (18).
وقال الشاطبي: (قد اتَّفَقَتْ الأمة بل سائر الملل: على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس: وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وعِلْمُها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين، ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل علمت ملائمتها للشريعة بمجموعة أدلة لا تنحصر في باب واحد) (19).
وقال: (وعلم هذه الضروريات صار مقطوعاً به، ولم يثبت ذلك بدليل معين، بل علمت ملائمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد. فكما لا يتعين في التواتر المعنوي أن يكون المفيد للعلم خبراً واحداً من الأخبار دون سائر الأخبار، كذلك لا يتعين هنا؛ لاستواء جميع الأدلة في إفادة الظن على انفرادها.
وسأطلق على هذه الضروريات الخمس أو الست: أهداف المجتمع الإسلامي، وبالتالي فإني أدعو إلى تعميم ونشر هذه الأهداف في كل المجتمعات؛ بعيداً عن الأهداف البشرية التي تطلق هنا أو هناك، وبتحقيق هذه الأهداف وإقامة حدودها للمحافظة عليها: يتحقق بناء الإنسان والمجتمع فكرياً.
بيان الضروريات الخمس أو الست:
¥