1) تخريج علل الأحكام التي استنبطها الأئمة. فكثير من الأحكام كانت غير معلَّلة، فاجتهدوا في بيان الأصول التي جرى عليها الأئمة في استنباطها، وخاصة الحنفية الذين تتبعوا فروع مذهبهم وبنوا عليها أصوله.
2) الترجيح بين الآراء المختلفة في المذهب وهو على نوعين:
الأول: ترجيح من جهة الرواية، والثاني: ترجيح من جهة الدراية.
أما من جهة الرواية: فإن النقل قد اختلف عن الأئمة في بعض المسائل، وقد نقل عنهم مذاهبهم عدد من تلاميذهم، وهذا الاختلاف في النقل ناشئ من خطأ بعض النقلة، أو من تردد الإمام نفسه في الرأي، فكان من عمل العلماء في هذا الدور الترجيح بين الروايات المتعارضة.
وأما النوع الثاني من الترجيح -وهو ترجيح الدراية- فيكون بين الروايات الثابتة عن الأئمة إذا اختلفت، أو بين ما قال الإمام وما قاله تلاميذه. وهذا إنما يكون من الفقهاء العالِمين بأصول أئمتهم ومناهجهم في الاستنباط، فيرجِّحون ما يتفق وتلك الأصول وما يكون أقرب إلى الكتاب والسنة، وقد يختلفون بسبب تفاوُت درجاتهم العلمية.
3) الانتصار للمذهب: قام كل فريق من العلماء بالانتصار لمذهبه، فنشط كل منهم لنشر مذهبه بين الناس، وألفوا الكتب في مناقب أئمتهم، وتحدّثوا عن سعة اطلاعهم وكمال زهدهم وشدة ورعهم وحسن استنباطهم ودقّة نظرهم وقوّة حجتهم وتمسكهم بالكتاب والسنة. وحملَ التعصبُ بعضَهم إلى النَّيْلِ من الأئمة المخالفين، حتى وصل الأمر إلى أن وضِعَت الأحاديث على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم في ذمّ أو مدح بعض الأئمة دون غيرهم، ونأتي هنا بمثال، يقول الوضِّاع: "يكون في أمِّتي رجل يقال له محمد بن إدريس، أضرّ على أمّتي من إبليس. ويكون رجل يقال له أبو حنيفة، هو سراج أمتي". وقالوا: "من قلَّد عالِماً لَقِيَ اللهِ سالِماً"، وهذا حديث لا أصل له. وتجاهل هؤلاء قوله صلى الله عليه وسلم المتواتر عنه: "من كذب علي متعمداً فليتبوَّأْ مقعده من النار".
كذلك قارن فقهاء ذلك الدور بين المسائل الخلافية واستدل كلٌّ منهم لرأي إمامه، وركب الصعاب والذلول في سبيل نصرته، فألّفوا كتب الخلاف وأطالوا في المناقشات والاستدلالات.
أهم أسباب انتشار التقليد
1) إغلاق باب الاجتهاد وإلزام العامة من الناس وطلاب العلم بمذهب معين بحجة سدّ باب الفوضى والفساد في الدين، وألزموا أنفسهم والناس بشيء لم يشرعه الله ولا رسوله للمسلمين، وإن كان سبب دعوتهم لسد باب الاجتهاد هو دعواهم بأن هناك من يفتي ولمَّا يبلغ درجة الاجتهاد، ولكن هذا لا يبرر تلك الفعلة التي ما زالت الأمة تعاني من نتائجها السيئة.
2) القضاء: أصبح الخلفاء والسلاطين يختارون قضاتهم من أصحاب مذهب معين يلتزمون الحكم به، بعد أن كانوا يختارونهم من العلماء الذين لهم القدرة على استنباط الأحكام من الكتاب والسنة، فمال العلماء لهذا السبب إلى الالتزام بمذهب معين وعدم الخروج عليه، وخاصة إذا وجد من الخلفاء أو السلاطين من يقصر ولاية القضاء على أتباع مذهب معين. وهذا الفعل قد ساعد -بلا شك- في تمكين المذاهب المعروفة في البلاد التي كان القضاء يحكم بها، كالدولة العباسية التي تبنت المذهب الحنفي، وكذلك الدولة العثمانية فعلت، أما الدولة الأيوبية فقد تبنت المذهب الشافعي. وفي المغرب كان مذهب مالك هو السائد خلال الدول التي تعاقبت عليه. ولا بد أن نذكر هنا أن المدارس المذهبية الأخرى كان لها قضاتها وعلماؤها في كل البلاد الإسلامية.
وأما المذاهب الباطنية فقد سيطرت على بقاع من العالم الإسلامي فترة من الزمن، كالشيعة والإسماعيليين، لكنها ذهبت واندثرت باندثار دولها التي كانت تتبناها. وهذه المذاهب الباطلة لا تتقاعص عن العمل في نشر مذهبها كلما سنحت لها الفرصة لذلك، وتاريخنا المعاصر يشهد بهذا.
¥