والإمساك عن أمره ونهيه كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت. كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر، فالعالم في البيان والبلاغ كذلك قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما إلى بيانها. اهـ
ثالثاً: مراعاة أفهام الناس وإدراكهم للعلم الملقى إليهم.
قال الإمام البخاري في كتاب العلم من «صحيحه»: بابٌ من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه. ثم أسند حديث عائشة -المتفق على صحته- قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين باب يدخل الناس وباب يخرجون».
قال الحافظ ابن حجر في شرحه «فتح الباري»: وفي الحديث معنى ما ترجم له لأن قريشا كانت تعظم أمر الكعبة جدا فخشي صلى الله عليه وسلم أن يظنوا لأجل قرب عهدهم بالإسلام أنه غيَّرَ بناءها لينفرد بالفخر عليهم في ذلك! ويستفاد منه: ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة. ومنه: ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه. وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم ولو كان مفضولاً ما لم يكن محرماً اهـ
وقال النووي الإمام في «شرح صحيح مسلم»: وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام منها: إذا تعارضت المصالح أوتعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدئ بالأهم. اهـ
وقال البخاري أيضاً: باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا، وقال علي (يعني بن أبي طالب): حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله. اهـ.
قال الحافظ ابن حجر في «شرحه»: والمراد بقوله «بما يعرفون» أي يفهمون وزاد آدم بن أبي إياس في كتاب العلم له في آخره: «ودعوا ما ينكرون»، أي يشتبه عليهم فهمه، وكذا رواه أبو نعيم في «المستخرج»، وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة ومثله قول ابن مسعود: ما أنت محدثاً قوما حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة، رواه مسلم.
وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان ومالك في أحاديث الصفات وأبو يوسف في الغرائب ومن قبلهم أبو هريرة ونحوه عن حذيفة وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي.
وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب والله أعلم .. اهـ.
ثم ذكر البخاري أيضاً حديث أنس بن مالك المتفق على صحته: أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال «يا معاذ بن جبل»، قال لبيك يا رسول الله وسعديك قال: «يا معاذ»، قال لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا قال: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار»، قال يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: «إذا يتكلوا»، وأخبر بها معاذ عند موته تأثما.
قال ابن حجر: التأثم هو التحرج من الوقوع في الإثم وإنما خشي معاذ من الإثم المرتب على كتمان العلم وظهر له أن المنع إنما هو من الإخبار عموماً، فبادر قبل موته فأخبر بها خاصا من الناس فجمع بين الحكمين ... فكان النهي للمصلحة لا للتحريم فلذلك أخبر به معاذ لعموم الآية بالتبليغ والله أعلم ... وللحسن بن سفيان في «مسنده» عن عبيد الله بن معاذ عن معتمر: قال: «لا! دعهم فليتنافسوا في الأعمال فإني أخاف أن يتكلوا».اهـ.
وقال الإمام الشاطبي في «الموافقات. في باب الاجتهاد: ومن هذا يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره وإن كان من علم الشريعة ومما يفيد علما بالأحكام بل ذلك ينقسم فمنه ما هو مطلوب النشر وهو غالب علم الشريعة ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص. ومن ذلك علم المتشابهات والكلام فيها فإن الله ذم من اتبعها فإذا ذكرت وعرضت للكلام فيها فربما أدى ذلك إلى ما هو مستغنى عنه وقد جاء فى الحديث عن علي: حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله .. وحديث ابن عباس عن عبد الرحمن بن عوف قال لو شهدت أمير
¥