أو تعم الدولة فتوكل إلى أهلها من أهل العلم أهل الدراية بالمصالح الكبرى للأمة الذين يطلعهم ولي الأمر على مجريات السياسة ومهام الدولة، فما سامع كمن شهد.
ثامناً: معرفة أحوال الناس:
قال الإمام أحمد بن حنبل: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
أولها: أن تكون له نية فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور.
والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة.
الثالثة: أن يكون قويًا على ما هو فيه وعلى معرفته.
الرابعة: الكفاية وإلا مضغه الناس.
الخامسة: معرفة الناس. اهـ
قال العلامة ابن القيم في كتابه «إعلام الموقعين عن رب العالمين»: إن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه .. فإن معرفة الناس أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم (أي القاضي) فإن لم يكن فقيهًا فيه فقيها في الأمر والنهي ثم يطبق أحدهما على الآخر وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح فإنه إذا لم يكن فقيها في الأمر، له معرفة بالناس تصور له الظالم بصوره المظلوم وعكسه والمحق بصورة المبطل وعكسه وراج عليه المكر والخداع والاحتيال وتصور له الزنديق في صورة الصديق والكاذب في صورة الصادق ولبس كل مبطل ثوب زور تحته الإثم والكذب والفجور وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم لا يميز هذا من هذا بل ينبغي له أن يكون فقيهاً في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال وذلك كله من دين الله وبالله التوفيق. اهـ
تاسعاً: اجتناب الحيل الزائفة والرخصة السامجة:
قال العلامة ابن القيم في «الإعلام»: لا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه فإن تتبع ذلك فسَقَ وحَرُمَ استفتاؤه، فإن حَسُنَ قصدُه في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة لتخليص المستفتى بها من حرج جاز ذلك بل استحب وقد أرشد الله تعالى نبيه أيوب عليه السلام الى التخلص من الحنث بأن ياخذ بيده ضغثا فيضرب به المرأة ضربة واحدة وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً إلى بيع التمر بدراهم ثم يشترى بالدراهم تمراً آخر فيتخلص من الربا، فأحسن المخارج ما خلص من المآثم وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم أو أسقط ما أوجبه الله ورسوله من الحق اللازم. اهـ
عاشراً: العلم بأصول المسائل ومآخذها من الأدلة:
يجب على من تصدر لفتوى الناس أن يكون عالماً بمآخذ المسائل والأحكام وأدلتها النقلية والتعليلية، ليكون على يقين أو ظن راجح في صحة فتواه لضرورته لذلك، وليعلم ما يتوقف فيه مما يجزم به، فإن الله سائله عما يقول!
قال العلامة ابن القيم في «الإعلام»: من استفرغ وسعه في نوع العلم كالفرائض وأدلتها واستنباطها من الكتاب والسنة دون غيرها من العلوم أوفي باب الجهاد أوالحج أوغير ذلك فهذا ليس له الفتوى فيما لم يجتهد فيه ولا تكون معرفته بما اجتهد فيه مسوغة له الإفتاء بما لا يعلم في غيره، وهل له أن يفتي في النوع الذي اجتهد فيه؟ فيه ثلاثة أوجه، أصحها الجواز بل هو الصواب المقطوع به والثاني المنع والثالث الجواز في الفرائض دون غيرها، فحجة الجواز أنه قد عرف الحق بدليله وقد بذل جهده في معرفة الصواب فحكمه في ذلك حكم المجتهد المطلق في سائر الأنواع وحجة المنع تعلق أبواب الشرع وأحكامه بعضها ببعض فالجهل ببعضها مظنة للتقصير في الباب والنوع الذي قد عرفه. اهـ.
وهذا لا يعني الاغترار بالنفس بل المراد معرفة بما يجزم بالفتوى به وما يتوقف فيه أو يعرف خلاف أهل العلم فيه، ويسأل الله التوفيق وكشف الحق له، وإلا أمسك وقال لا أعلم، وأحال على غيره، قال ابن النجار الفتوحي في «شرح الكوكب المنير»: لا يفتي إلا مجتهد عند أكثر الأصحاب، ومعناه عن أحمد، فإنه قال: وينبغي أن يكون عالما بقول من تقدم، وقال أيضا: ينبغي للمفتي أن يكون عالما بوجوه القرآن، والأسانيد الصحيحة والسنن. وقال أيضا: لا يجوز الاختيار إلا لعالم بكتاب وسنة. قال بعض أصحابنا: الاختيار ترجيح قول، وقد يفتي بالتقليد. اهـ.
¥