تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ذلك، وإذ لم يشتركوا فيه لم يصح. قال ابن القيم: «وقد استفصل النبي صلى الله عليه وسلم ماعزاً لما أقر بالزنا: هل وجد منه مقدماته أو حقيقته؟ فلما أجابه عن الحقيقة استفصله: هل به جنون فيكون إقراره غير معتبر، أم هو عاقل؟ فلما علم عقله استفصله: بأن أمر باستنكاهه ليعلم هل هو سكران أم صاح؟ فلما علم أنه صاح استفصله: هل أحصن أم لا؟ فلما علم أنه قد أحصن أقام عليه الحد» (27). أما إذا لم تدع الحاجة إلى الاستفصال، فيحسن بالمفتي عند ذلك الإجمال.

6 – الضابط السادس: التجرد من الهوى في المفتي والمستفتي:

إن من أهم الضوابط لسلامة الفتوى تجردها من الأهواء، سواء كان مبعثها المستفتي أو المفتي.

- أما المستفتي: فقد يدفعه هوى متبع فيزين الباطل بألفاظ حسنة ليغرر بالمفتي حتى يسوغ ذلك للناس، مع أن ما يسأل عنه من أبطل الباطل.

قال ابن القيم: «فكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبراز في صورة حق! وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل! ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك، بل هو أغلب أحوال الناس» (28). ولهذا اشترط العلماء في المفتي أن يكون متيقظاً حتى لا تغلب عليه الغفلة والسهو، عالماً بحيل الناس ودسائسهم حتى لا يغلبوه بمكرهم، فيستخرجوا منه الفتاوى حسب أهوائهم.

قال ابن عابدين: «وهذا شرط في زماننا، وليحترز من الوكلاء في الخصومات، فإن أحدهم لا يرضى إلا بإثبات دعواه لموكله بأي وجه أمكن. ولهم مهارة في الحيل والتزوير وقلب الكلام، وتصوير الباطل بصورة الحق؛ فغفلة المفتي يلزم منها ضرر عظيم في هذا الزمان» (29)

وقال ابن القيم: «ينبغي للمفتي أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذراً فطناً، فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع. وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ» (30).

- وأما المفتي فإن تجرده من الهوى أشد لزوماً من المستفتي؛ لأنه مخبر عن الله تعالى؛ فإن أفتى بهواه موافقة لغرضه أو غرض من يحابيه كان مفترياً على الله. لقول الله تعالى: [وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (النحل: 116 - 117).

لقد عشنا في زمن سمعنا فيه فتاوى ظالمة، وآراء آثمة، فيها محادة لله ورسوله، منها: القول بجواز ربا البنوك محاباةً لمن يطلب ذلك من أصحاب النفوذ مع أن الله تعالى حرم الربا بنصوص قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، منها قوله سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ] (البقرة: 278 - 279)، ورغم هذا الوعيد الشديد فقد خرج على الأمة من أفتاها بجواز ربا البنوك، دون وجل أو خوف من ملك الملوك، أو خشية من عذاب الله، أو رهبة من حرب آذن بها الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون. قال ابن القيم: «لا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير وموافقة الغرض؛ فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به، ويفتي به، ويحكم به، ويحكم على عدوه، ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق، وأكبر الكبائر» (31)

لهذا كان من شرائط المفتي عدم تأثير القرابة والعداوة فيه، وعدم جر النفع ودفع الضرر من أجل ذلك المعنى؛ لأن المفتي في حكم من يخبر عن الشرع بما لا اختصاص له بشخص، فكان في ذلك كالراوي لا كالشاهد (32). وقد يداخل الهوى بعض المنتمين إلى العلم «يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية، بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي، بناء منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه، وحرج في حقه، وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى، وليس بين التشديد والتخفيف واسطة. وهذا قلب للمعنى المقصود في الشريعة، فإن اتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها، والخلاف إنما هو رحمة من

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير