جهة أخرى، فليأخد الموفق في هذا الموضوع حذره؛ فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه» (33)
7 – الضابط السابع: أهلية المفتي:
لما كان الإفتاء إخباراً عن حكم الله، وكانت الفتوى توقيعاً عن الله، فلا بد للمتصدر للفتوى أن تتحقق فيه الأهلية الشرعية. وقد اشترط الأصوليون لتحقق هذه الأهلية شروطاً معينة، وصفات محددة، نجملها فيما يلي: أن يكون مكلفاً، مسلماً، ثقة، مأموناً، متنزهاً من أسباب الفسق ومسقطات المروءة؛ لأن من لم يكن كذلك فقوله غير صالح للاعتماد، حتى وإن كان من أهل الاجتهاد. ويكون مع ذلك متيقظاً، فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط (34)
قال ابن قيم الجوزية: "قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: ما تقول في الرجل يسأل عن الشيء، فيجيب بما في الحديث وليس بعالم في الفقه؟ فقال: يجب على الرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالماً بوجوه القرآن، عالماً بالأسانيد الصحيحة، عالماً بالسنن، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي ?، وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها". - وقيل لابن المبارك: " متى يفتي الرجل؟ قال: إذا كان عالماً بالأثر، بصيراً بالرأي".
- وقيل ليحيى بن أكثم:» متى يجب للرجل أن يفتي؟ فقال: إذا كان بصيراً بالرأي، بصيراً بالأثر «. قال ابن القيم بعد الأثرين السابقين: يريدان بالرأي القياس الصحيح، والمعاني والعلل الصحيحة التي علق الشارع بها الأحكام، وجعلها مؤثرة فيها طرداً وعكساً» (35). لهذا كله ذهب أكثر الأصوليين إلى أن المفتي هو المجتهد (36). قال الكمال بن الهمام: «وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد، وأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفتٍ، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد، كالإمام أبي حنيفة على وجه الحكاية، فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي» (37). وقد عبر الأصوليون عن «غير المجتهد» بالمستفتي تارة، وبالمقلد تارة أخرى، ولهذا اختلفوا في جواز إفتائه: - فقال أبو الحسين البصري وغيره: ليس له الإفتاء مطلقاً. - وجوزه قوم مطلقاً إذا عرف المسألة بدليلها. وهذا أرفق بزماننا الذي خلا عن المجتهد المطلق لئلا تتوقف الفتوى، وتتعاظم البلوى، ويشتد الحرج، وتتعطل مصالح الخلق. ولا يعني هذا أن يتصدر للفتوى من حفظ بعض الأحكام، أو أجاد تنميق الكلام.
وقال الجويني في شرح الرسالة: «من حفظ نصوص الشافعي، وأقوال الناس بأسرها، غير أنه لا يعرف حقائقها ومعانيها، لا يجوز له أن يجتهد ويقيس، ولا يكون من أهل الفتوى، ولو أفتى به لا يجوز».
8 - الضابط الثامن: ألا يتتبع الرخص:
أمر الله تعالى باتباع الحق والتزام طاعة الله ورسوله ?، ونهى عن الهوى، قال تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، وقال: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] والواجب على المفتي في مسائل الخلاف أن ينظر بعين الباحث المنصف والمستدل المجتهد، لا أن يتخيّر من غير نظر في الدليل والترجيح.
قال ابن القيم رحمه الله: «لا يجوز للمفتي أن يعمل بما شاء من الأقوال والوجوه من غير نظر في الترجيح، بل يكتفي في العمل بمجرد كون ذلك قولاً قاله إمام أو وجهاً ذهب إليه جماعة فيعمل بما يشاء من الوجوه والأقوال؛ حيث رأى القول وفق إرادته وغرضه عمل به؛ فإرادته وغرضه هو المعيار وبه الترجيح، وهذا حرام باتفاق الأمّة» (38) وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على المنع من تتبع الرخص. (39) وعدَّه جمع من الفقهاء مما يفسق به فاعله.
قال الذهبي رحمه الله: «من يتبع رخص المذاهب، وزلاّت المجتهدين فقد رَقَّ دينه» (40).
الشروط الواجب توفرها في المفتي:
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه –يعني للفتيا- حتى تكون فيه خمس خصال:
أن تكون له نية, فإنه إذا لم تكن له نية, لم يكن عليه نور, ولا على كلامه نور.
والثانية: أن يكون له وقار وسكينة.
والثالثة أن يكون قوياً على ما هو فيه, وعلى معرفته.
¥