والرابعة: الكفاية, وإلا مضغه النَّاس.
والخامسة: معرفة النَّاس". (41).
وحكى النووي عن الخطيب قوله: "ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين فمن صلح للفتيا أقره ومن لا يصلح منعه ونهاه أن يعود وتواعده بالعقوبة إن عاد وطريق الإمام إلى معرفة من يصلح الفتيا أن يسأل علماء وقته ويعتمد أخبار الموثوق بهم ثم روى بإسناده عن مالك رحمه الله قال ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك وفي رواية ما أفتيت حتى سألت من هو أعلم مني هل يراني موضعا لذلك قال مالك ولا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلا لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه. (42)
مسألة فيما إذا وقع شك للمستفتي أن المفتي أفتى بالهوى والخطأ:
على المُستفتي أن لا يظن أنَّ مجرد فتوى الفقيه تُبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أنَّ الأمر بخلافه في الباطن, سواء تردد أو حاك في صدره لعلمه بالحال في الباطن, أو لشكه فيه, أو لجهله به, أو لعلمه جهل المفتي, أو محاباته في فتواه, أو عدم تقييده بالكتاب والسنَّة, أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرُّخص المخالفة للسنَّة, وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثِّقة بفتواه وسكون النَّفس إليها (42)
وقد حقق الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى مسألة وقوع الشك في فتيا المفتي –بتفصيل- فقال:
فأما ما كان مع المفتي به دليل شرعي فالواجب على المفتى الرجوع إليه وإن لم ينشرح له صدره وهذا كالرخصة الشرعية مثل الفطر في السفر والمرض وقصر الصلاة في السفر ونحو ذلك مما لا ينشرح به صدور كثير من الجهال فهذا لا عبرة به وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم أحيانا يأمر أصحابه بما لا تنشرح به صدور بعضهم فيمتنعون من قوله فيغضب من ذلك كما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فكرهه من كرهه منهم وكما أمرهم بنحر هديهم والتحلل من عمرة الحديبية فكرهوه وكرهوا مفاوضته لقريش على أن يرجع من عامه وعلى أن من أتاه منهم يرده إليهم وفي الجملة فما ورد النص به فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله كما قال تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضا فإن ما شرعه الله ورسوله يجب الإيمان والرضا به والتسليم له كما قال تعالى فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما النساء وأما ما ليس فيه نص من الله ولا رسوله ولا عمن يقتدي بقوله من الصحابة وسلف الأمة فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن قلبه بالإيمان المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شيء وحك في صدره بشبهة موجودة ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه وهو ممن لا يوثق بعلمه وبدينه بل هو معروف باتباع الهوى فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره وإن أفتاه هؤلاء المفتون وقد نص الإمام أحمد على مثل هذا أيضا قال المروزي في كتاب الورع قلت لأبي عبدالله إن القطيعة أرفق بي من سائر الأسواق وقد وقع في قلبي من أمرها شيء فقال أمرها أمر قذر متلوث قلت فتكره العمل فيها قال دع عنك هذا إن كان لا يقع في قلبك شيء قلت قد وقع في قلبي منها فقال قال ابن مسعود الإثم حواز القلب قلت إنما هذا على المشاورة قال أي شيء يقع في قلبك قلت قد اضطرب على قلبي قال الإثم هو حواز القلوب (43)
ولا يقتصر الشَّكُّ في فتواه على ما ذُكر في رأس المسألة من كون المفتي يفتي بغير دليل شرعي, وإنما يدخل ما إذا أفتى بدلالة بعيدة, وغموض في الاستدلال أو استدل استدلالاً خاطئاً, وإلى هذا أشار أبو الوفاء ابن عقيل بقوله:
ولم يُرد ? بالمتشابهات, ولا ما حاك في الصدر ما لا دليل عليه, لكنه أراد ما كان في دليله غموض, والدلالة على ذلك قوله: "لا يعلمها إلا قليل" ولو كان ما لا دليل عليه, لما أضافه إلى القليل من العلماء, وهم الذين زال الاشتباه عنهم لانكشاف الأدلة لهم (44)
المراجع:
(1) البحر المحيط (6/ 307).
(2) إعلام الموقعين (1/ 10 - 11).
(3) شرح منظومة عقود رسم المفتي لابن عابدين –ضمن مجموع رسائله- (1/ 16).
(4) إعلام الموقعين (1/ 38).
(5) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى، 6/ 110، و الدارمي في السنن، 1/ 53، و ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 1/ 771 معزواً للبراء.
¥