من مصنفات الخطيب الكثيرة التي أفردها لأنواع وعلوم من علوم الحديث0
وللدكتور محمود الطحان مبحث خاص في كتابه (الحافظ الخطيب ا لبغدادي وأثره في علوم الحديث)، يثبت فيه بالموازنة أن ابن الصلاح- كما يقول-: ((كان عالة على كتب الخطيب عامة، وكتابيه (الكفاية) و (الجامع) خاصة)) (2).
ونخرج من هذا بنتيجة واضحة، وهي أن كثيرا من آراء الخطيب في تفسير مصطلح الحديث وتقرير قواعده سوف تنتقل الى ابن الصلاح، بما في تلك الآراء من صواب (وهي غالبها)، ومن خطأ (وهي أقلها)، من آثار اقتباس الخطيب من الفقة0
والآراء وان اتفقت أحيانا كثيرة، بسبب ذلك التعويل والاعتماد على كتب الخطيب،
ا لا أن منهج تقريرها قد بدا فيه بعض الاختلاف0
وليس اختلاف المنهج أمرا غريبا، بعد تذكر ما سبق تقريره، من ضعف تلقي العلوم النقلية، وقوة تأثير العلوم العقلية على علوم السنة، وازدياد ذلك بالتدريج عبر العصور0 وقد عبر ابن الصلاح نفسه عن حاله عصره و أهله تجاه علوم السنة، مبينا سبب تأليفه لكتابه (معرفة أنواع علم الحديث)، حيث قال في مقدمته: ((ولقد كان شأن الحديث فيما مضى عظيماً، عظيمة جموع طلبته، رفيعة مقادير حفاظه وحملته. وكانت علومه بحياتهم حيةً، وأفنان فنونه ببقائهم غضةًً، ومغانيه بأهله آهلةً. فلم يزالوا في انقراض، ولم يزل في اندراس، حتى آضت به الحال: على أن صار أهله إنما هم شرذمة قليلة العدد ضعيفة العدد. لا تغني على الأغلب في تحمله بأكثر من سماعه غفلاً، ولا تتعنى في تقييده بأكثر من كتابته عطلاً، مطر حين علومه التي بها جل قدره، مباعدين معارفه التي بها فخم أمره. فحين كاد الباحث عن مشكله لا يلفي له كاشفاً، والسائل عن علمه لا يلقى به عارفاً، من الله الكريم تبارك وتعالى وله الحمد أجمع بكتاب (معرفة أنواع علم الحديث)
هذا ... )) (1).
أما تأثير العلوم العقلية على علوم السنة، فإضافةً إلى أن ابن الصلاح قد نقل بعض ذلك الأثر عن الخطيب البغدادي، فإن ابن الصلاح فوق ذلك جاء بعد الخطيب بما يقارب القرنين من الزمان، فالأثر ازاداد في عصره عن عصر الخطيب، والمرء ابن زمانه، فلا بد أن يزداد الأثر على ابن الصلاح أيضاً.
ولئن كان لابن الصلاح تلك الفتوى القوية في ذم علم المنطق والحط منه (2)، فإنه من جهةٍ أخرى اصولي متبحر فيه معدود في (طبقات الأصوليين) (3).
يقول محقق كتاب ابن الصلاح، الدكتور نور الدين عتر في مقدمة تحقيقه: ((فأكب ابن الصلاح على هذه الذخائر يفحصها بعين الفقيه المتعمق في الفهم والاستنباط، ويزن عباراتها بميزان الأصول الضابط للحدود والتعاريف، وحسبك به فقيهاً، وأصولياً محققاً)) (4).
وبعض النظر عن صحة هذه العبارة، القائلة إن: ابن الصلاح ضبط حدود المصطلحات وتعريفاتها بميزان الأصول، غلا أن هذا الميزان ـ في الحقيقة ـ هو الذي منه نفر (5)!! وإن كنت أوافق أن بعض ذلك قد وقع من ابن الصلاح، غلا أنه أقل ممن جاء بعده في ذلك!
لكن لما كان كتاب ابن الصلاح إماماً وقدوةً لمن بعده، وسن كتابه هذا المهج، وعمق أثر الأصول فيه، تدافع القوم على الاستنان بمنهجه، والاقتداء بطريقته!!
وأدلة ذلك تظهر من نواحي عدة:
من كثرة نقوله عن الأصوليين (6).
ومن دمجه لآراء المحدثين والفقهاء والأصوليين (7).
ومن نقله مع رأي المحدثين الرأي المخالف له للفقهاء والأصوليين، دون ترجيح، ومع وضعه لكلا الرأيين في ميزان واحد (8).
بل ربما مال إلى ترجيح رأي الأصوليين على رأي المحدثين!
كما فعل في صور المرسل المختلف فيها، حيث قال: ((إذا انقطع الإسناد قبل الوصول إلى التابعي، فكان فيه رواية واوٍ لم يسمع من المذكور فوقه. فالذي قطع به الحاكم الحافظ أبو عبد الله وغيره من أهل الحديث أن ذلك لا يسمى مرسلاً ... والمعروف في الفقه واصوله أن كل ذلك يسمى مرسلاً، وإليه ذهب من أهل الحديث أبو بكر الخطيب وقطع به)) (1).
وقال أيضا في الموضوع نفسه: ((ا ذا قيل في ا لا سنا د: فلان عن رجل أو ن عن شيخ عن فلان، أو نحو ذلك: فالذي ذكر الحاكم في (معرفة علوم الحديث) انه لا يسمى مرسلا، بل منقطعا0 وهو في بعض المصنفات المعتبرة في أصول الفقه معدود من أنواع المرسل)) (2).
¥