وهذه العبارة النادرة (التي احتاج المزي أن ينقلها عن البخاري بواسطة نقل غيره عن البخاري) تحتاج إلى توضيح معناها، كي لا تبتر جملة منها عن باقيها فيدعى لها معنى غير مقصود قائلها. إذ لو قال قائل: إن البخاري قد قال: (إذا قلت: فيه نظر فلا يحتمل) = لدل هذا السياق المبتور على معنى العبارة التي نقلها الذهبي. لكننا رأينا أن هذه العبارة النادرة لم تكن مبتورة هكذا، ولا جاءت بهذا المساق.
فهل لمساقها الذي وردت فيه أثرٌ في بيان معناها؟ وهل سيختلف معناها به عن معناها مبتورة كما سبق؟
فإذا تأملنا عبارة البخاري، وجدنا أن البخاري يريد أن يبين لنا قسمين قسّم تراجم تاريخه باعتبارهما. فالقسم الأول هو الذي قال فيه: (كلّ من لم أبيّن فيه جرحةً فهو على الاحتمال) وهذا قِسمُ من لم يتكلم فيه البخاري بجرح ولا تعديل.
أما أنه قسم من لم يتكلم فيه بجرح: فهذا نص كلامه، وأما أنه من لم يتكلم فيه بتعديل أيضاً: فهو المتبادر إلى الذهن، ويقطع بصحة إرادته: أنه قال عن هذا القسم: (إنه على الاحتمال) فهل من قال عنه (ثقة، أو إمام حافظ) يكون على الاحتمال؟! ومن هنا ندخل في بيان معنى (الاحتمال) في هذا القسم، ماهو هذا الاحتمال الذي سيكون من نصيب من ترجم له البخاري دون جرح ولا تعديل؟ لا شك أن معناه: أنه لا يجزم فيه بحكم، وأنه يُحتمل أن يكون مقبولاً ويُحتمل أن يكون مردوداً، وأن البخاري لم يبيّن لنا من منزلته في الجرح والتعديل شيئاً. إذن (فالاحتمال) في هذا النصّ ليس هو بمعنى الاحتجاج، ولا هو بمعنى احتمال الاعتبار بحديثه.
فانتبه لهذا الأمر الواضح، ولا تغْفل عن نتيجته.
وتفسير (الاحتمال) في القسم الأول بما فسرته به، مع وضوحه، فهو ما فهمه أيضاً ناقل العبارة نفسه، وهو الحافظ الأندلسي، حيث قال كما سبق: (فلم ينبه من أمره على شيء، فدل أنه عنده على الاحتمال) كما أن هذا الحافظ قد فهم أن هذا القسم
هو قسم من لم يتكلم فيه بجرح أو تعديل لقوله (فلم ينبه من أمره على شيء).
فإذا جئنا للقسم الثاني الذي ورد في عبارة البخاري، وهو الذي قال فيه: ((وإذا قلت: فيه نظر، فلا يحتمل)) يظهر لنا أنه قِسمُ من جُرح بهذه العبارة (وهي: فيه نظر).
فما هو حال هذا القسم؟ وما معنى الاحتمال الذي نفي عن أصحاب هذا القسم من الرواة؟
تذكّر معنى الاحتمال في القسم الأول، لتعرف معنى الاحتمال المنفي في القسم الثاني! فالاحتمال في القسم الأول: أي أن الراوي فيه قد يكون من كبار الثقات وقد يكون من أضعف وأوهى الرواة أو بين ذلك. فهل من قال فيه البخاري ((فيه نظر))، وجرحه بذلك = يكون محتملاً في حاله كل تلك الاحتمالات؟
لاشك أنه ((لا يُحتمل)) لأنه قد تكلم فيه، وحكم فيه بحكمٍ لا يحتمل أن يكون معه من الثقات عنده (على الاتفاق بيني وبين المخالفين).
إذن فقول البخاري: ((فلا يحتمل)) أي ((ليس كمن لم أتكلم فيه بجرح أو تعديل، لأني قد أبنت عن حكمٍ لي فيه)). فكل واحدة من هاتين العبارتين تؤدي المعنى نفسه.
أفرأيت كيف اختلف معنى العبارة عندما فهمناها من خلال مساقها؟!!
ثم هل بقيت هذه العبارة (من خلال فهمها الآخذ بطرفيها) دالة على ما كان يستدل بها عليه من بترها عن مساقها؟!!
ونخلص من هذه الوقفات أن قول البخاري ((فيه نظر)) لم يزل غير دال وحده على الضعف الشديد، لأن من رأى أنها تدل على الضعف الشديد إنما اعتمد على ما نُقِل عن البخاري، غافلاً عن أدلة وإشكالات تنقض وتعترض النتيجة التي توصل إليها، وغير منتبه إلى أن عبارة البخاري (وهي دليله الوحيد) لا تدل أصلاً على المعنى الذي فهمه منها.
ولم يزل عندي حول هذه المسألة من الوقفات التي أسد بها ثغراتها، وأزيل عنها شبهاتها، وأفسر مقصود البخاري بقوله ((فيه نظر)) على اختلاف دلالاتها من خلال واقع استخدامها، وما هي مرتبة هذه اللفظة على التعيين؟ وغير ذلك مما هو من لوازم الدراسة العلمية المنضبطة، التي لا تستجيز العجلة، بل لا تطمئن إلى النتيجة إلا بعد سد الثغرات والإجابة عن كل اعتراض محتمل بجواب صحيح، لأن بقاء ثغرة واحدة أو قيام إشكال واحد قد يكون في حقيقته ناقضاً صحيحاً ورداً وجيهاً عما كنت قد تبنيته، فلا بد من دراسة ذلك كله بصدق وأمانة.
وهنا أنصح طلبة العلم بهذا الأدب، وأن يعلموا أن العلم لا يكون من استعجال قطف الثمرة. بل لا بد من طول التأمل، ومن عمق التدبر، ومن كثرة البحث والنظر. فإنهم إذا فعلوا ذلك: كانوا أهلا لأن يوفقهم الله تعالى للصواب، وكانوا بذلك أيضا أكثر احتراما وأدبا مع اجتهاد من سار على هذا المنهج فإن خفي عليهم شيء أو بدا لهم إشكال: أطالوا فيه الفكرة، وأداموا فيه النظرة، أو سألوا ((فإنما شفاء العي السؤال)).
هذا .. والله أعلم.
والحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من نبي بعده، وعلى آله وأصحابه، ومن اقتفى أثره واتقى حدّه.
¥