وهي دعوة في جملتها وظاهرها مقبولة، لكنها لا تصلح أن يخاطب بها جميع الطلبة، فالمبتدئ في حكم العامي عليه أن يقلد أهل العلم، وتقليد المتقدمين يجعل الطالب في حيرة لصعوبة محاكاتهم ممن هو في البداية لأنه يلزم عليه أن يقلدهم في كل حديث على حدة، وهذا يلزم عليه قطع باب التصحيح والتضعيف من قِبَل المتأخرين، وهذا ما دعى إليه ابن الصلاح - رحمه الله -، لكنه قول رده أهل العلم عيه وفنَّدوه وقوَّضوا دعائمه.
وأما طالب العلم المتمكّن من جمع الطرق واستيعابها، وإدامة النظر في أحكام المتقدمين بعد أن تخرّج على قواعد المتأخرين وطبقها في حياته العلمية مدة طويلة، وحصل عنده مَلَكة تؤهله للحكم بالقرائن، فهذا هو المطلوب بالنسبة لهذا النوع، وهذا هو مسلك المتأخرين أنفسهم كالذهبي، وابن حجر لا تجد لهم أحكاماً مطردة في التطبيق وإن اطرد قولهم في التقعيد للتمرين.
وإذا كان كبار الأئمة في عصرنا وقبله كسماحة شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز، ومحدث العصر الشيخ ناصر الدين الألباني رحمهما الله، قد اعتمدا كثيراً على قواعد المتأخرين، فكيف بمن دونهما بمراحل، وليست قواعد المتأخرين قواعد كلية لا يخرج عنها أي فرع من فروعها، بل هي قواعد أغلبية يخرج عنها بعض الفروع كغير هذا العلم من العلوم الأخرى.
ونظير هذه الدعوى دعوى سبقتها، وهي الدعوة إلى نبذ كتب الفقه، وطرح كلام الفقهاء وعدم اعتبارها، والتفقه مباشرة من الكتاب والسنة، وهي دعوة كسابقتها لا يمكن أن يخاطب بها جميع فئات الطلبة بل يخاطب بها طالب العلم المتمكن الذي لديه أهلية النظر في الأدلة وما يتعلق بها، فليست كتب الفقه وأقوال الفقهاء دساتير لا يحاد عنها بل ينظر فيها، فما وافق الدليل عمل به، وما خالف الدليل ضرب به عُرض الحائط كما أوصى به الأئمة أنفسهم.
وقد اطّلعت أخيراً على كتاب ألّفه فضيلة الشيخ الشريف حاتم بن عارف العوفي وفقه الله وسمَّاه: ((المنهج المقترح لفهم المصطلح، دراسة تأريخية تأصيلية لمصطلح الحديث)) وهو كتاب يدل على دقة فهم وسبر واستقراء انتقد المؤلف فيه بعض المصطلحات التي شاع استعمالها عند المتأخرين كالمتواتر والآحاد وغيرها.
وشدد في هذه المسألة، وهي مجرد اصطلاح والخلاف فيها لفظي إذ لا نزاع بين أحد أن الأخبار متفاوتة قوة وضعفاً وكثرة في رواتها وقلة وفيما تفيده من القطع أو الظن.
وأكثر ما يخاف من استعمال بعض المصطلحات الالتزام بلوازمها الباطلة عند المخالفين من المتكلمين كقولهم: إن الآحاد لا يفيد إلا الظن والعقائد لا تثبت بالآحاد تبعاً لذلك، ولذا قال الشيخ أحمد شاكر بعد أن اعتمد تقسيم الأخبار إلى ما ذكر قال: ودع عنك تفريق المتكلمين في اصطلاحاتهم بين العلم والظن، فإنهم يريدون بهما معنى غير ما تريد ([1])
فإذا قلنا بالتقسيم المذكور ولم نلتزم باللازم الباطل فلا أرى مانعاً من استخدام هذه المصطلحات لا سيّما وقد اعتمدها الأئمة الذين لا يشك في خدمتهم للسنة وغيرتهم على العقيدة مثل شيخ الإسلام بن تيمية وابن القيم وابن رجب وابن باز وغيرهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2/ 325) لما ذكر حديث الرؤية المخرج في الصحيحين وغيرهما قال: وهذا الحديث متفق عليه من طرق كثيرة وهو مستفيض بل متواتر عند أهل العلم بالحديث أهـ.
وقال في الكتاب المذكور (6/ 408): كل واحد من أهل خبر التواتر يجوز عليه الخطأ وربما جاز عليه تعمد الكذب لكن المجموع لا يجوز عليهم ذلك في العادة.
وقال في (6/ 457): بل الشرع إذا نقله أهل التواتر كان خيراً من أن ينقله واحد منهم. . . وعصمة أهل التواتر حصل في نقلهم أعظم عند بني آدم كلهم من عصمة من ليس بنبي.
إلى أن قال (ص 458): والتواتر يحصل بأخبار المخبرين الكثيرين وإن لم تعلم عدالتهم.
وقال - رحمه الله - في الكتاب المذكور (7/ 386): وقد تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)).
وقال في (7/ 516): وخبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن وتلك قد تكون منتفية أو خفية عن أكثر الناس.
وفي (ص 249) من الجزء الثامن: من شرط التواتر حصول من يقع به العلم من الطرفين والوسط.
¥