وبالتأمل في هذا التعريف نجد أن للحديث الصحيح خمسة شروط لا بد أن تتوفر فيه كلها حتى يحكم له بالصحة، فإذا اختل واحد منها فليس الحديث بصحيح، وهذه الشروط الخمسة تتضمن أركان البحث النقدي التي سبق أن أشرنا إليها، ونبين لك ذلك فيما يلي:
الشرط الأول: أن يكون كل واحد من رواة الحديث عدلاً؛ أي متحلياً بصفة العدالة. والعدالة خصلة تلزم صاحبها سبيل الاستقامة والصدق. لأنها كما عرفها العلماء: "ملكة تحمل صاحبها على التقوى واجتناب الأدناس وما يخل بالمروءة عند الناس".
وتتضمن العدالة خصالاً عدة كما هو ظاهر لمن تأمل في تعريفها، قد فصلها العلماء (4) وفرعوا أحكام العدالة في الرواية على هذه الخصال (5). ويجب أن يتنبه إلى أن العدالة لا تعني العصمة من الخطأ، لكن تستلزم تغلب عنصر الاستقامة بحيث لا يكاد يحيد عنه حتى يثوب ويرجع إليه، لذلك قالوا: من غلب نقصه على فضله وهب نقصه لفضله.
الشرط الثاني: أن يكون الراوي ضابطاً لما يرويه:
وهذه الصفة تمنح الراوي القدرة على أن يروي الحديث كما سمعه. ويقسم المحدثون الضبط إلى قسمين:
القسم الأول: ضبط صدر: ومعناه أن يحفظ الحديث عن ظهر قلب من حين سماعه إلى أن يؤديه، ويشترط فيه التيقظ لما يرويه، وألا يكون مغفلاً، وإن كان حدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالماً بما يحيل المعاني".
القسم الثاني: ضبط كتاب: ومعناه أن يعتمد الراوي في الرواية على وثائق كتب فيها الأحاديث التي تلقاها من شيوخه، ويشترط فيه أن يكون ضابطاً لكتابه محافظاً عليه أن تمتد إليه يد بالتبديل أو التغيير.
وللضبط مقياس دقيق وضعه العلماء، عولوا عليه في كشف مستوى حفظ الراوي للحديث، وهو كما لخصه الإمام ابن الصلاح (6): "أن نعتبر –أي نقايس- رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان، فإن وجدنا رواياته موافقة ولو من حيث المعنى لرواياتهم أو موافقة لها في الأغلب والمخالفة نادرة، عرفنا حينئذ كونه ضابطاً، وإن وجدناه كثير المخالفة لهم عرفنا اختلال ضبطه ولم نحتج بحديثه".
فإذا اجتمع في الراوي هذان الركنان: العدالة والضبط فهو حجة يلزم العمل بحديثه إذا استوفى الحديث بقية شروطه، ويطلق على الراوي حينئذ "ثقة". وذلك لأنه تحقق فيه الاتصاف بالصدق، وتحلى بقوة الحفظ الذي يمكنه من استحضار الحديث وأدائه كما سمعه، فتحقق أنه أدى الحديث كما سمعه فصار حجة، وإذا اختل فيه شيء من خصال الثقة كان مردود الحديث بحسب الاختلال الذي لحقه.
وتحقيق هذين الشرطين في توثيق الراوي يستدعي استيفاء النظر فيه من جميع وجوه البحث في الرواة، وتتركز في وجهين يجمع كل واحد منهما عدداً من علوم الحديث وقواعده:
الوجه الأول: البحث في الراوي من حيث تحديد شخصه، أي بعبارة عصرنا تحصيل ما يسمى الآن بطاقة شخصية "تذكرة هوية" للراوي، وذلك من ناحيتين: الأولى: ناحية اسم الراوي واسم أبيه وقبيلته ونسبته وتمييزه عما يشابهه في شيء من ذلك من أسماء الرواة، وذلك بدراسته في ضوء مجموعة علوم تدرس الرواة من هذه الناحية تبلغ ثلاثة عشر علماً في أصولها، سميتها علوم أسماء الرواة.
الناحية الثانية: تحديد شخص الراوي من حيث وجوده الزماني والمكاني، وذلك بمجموعة علوم نسميها "علوم الرواة التاريخية"، يبلغ عدد أصولها عشرة أنواع من العلوم.
الوجه الثاني: البحث في الراوي من جهة العلوم التي تعرِّف بحاله من حيث القبول أو الرد.
الشرط الثالث من شروط الحديث الصحيح: الاتصال: أي اتصال السند:
ومعناه أن يكون كل واحد من رواة الحديث قد تلقاه ممن فوقه من الرواة من أول السند حتى يبلغ التلقي قائله.
وهذا الشرط يستدعي البحث من جهتين:
الأولى: بحث السند من حيث الاتصال أو الانقطاع، فإذا كان متصلاً بقانون أي نوع من أنواع الاتصال –وهي خمسة أنواع- كان مقبولاً إذا ثبت استيفاؤه بقية الشروط، أما إذا كان منقطعاً بموجب أي قانون من قوانين أنواع الانقطاع- وهي ستة أنواع- كان غير مقبول.
¥