يقول الإمام السرخسي الحنفي رحمه الله بعد بيان نحو ما قدمناه (31): "فأما الآثار المروية في عذاب القبر ونحوها فبعضها مشهورة وبعضها آحاد، وهي توجب عقد القلب عليه، والابتلاء بعقد القلب على الشيء بمنزلة الابتلاء بالعمل به أو أهم ... ".
وقال الإمام البَزدوي في أصوله (32): "فأما الآحاد في أحكام الآخرة فمن ذلك ما هو مشهور ومن ذلك ما هو دونه، لكنه يوجب ضرباً من العلم على ما قلنا، وفيه ضرب من العمل أيضاً، وهو عقد القلب .. ".
وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه في الرسالة (33).
"أما ما كان نص كتاب بيِّن أو سنة مجتمع عليها فالعذر فيها مقطوع، ولا يسع الشك في واحد منهما، ومن امتنع من قبوله استتيب".
فأما ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي قد يختلف الخبر فيه فيكون الخبر محتملاً للتأويل وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد، فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين حتى لا يكون لهم رد ما كان منصوصاً منه، كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول، لا أن ذلك إحاطة كما يكون نص الكتاب وخبر العامة عن رسول الله.
ولو شك في هذا شاك لم نقل له: تب، وقلنا: ليس لك إن كنت عالماً أن تشك، كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة الشهود العدول، وإن أمكن فيهم الغلط، ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم، والله ولي ما غاب عنك منهم". انتهى.
وغير ذلك كثير لا نطيل به من نقل كلام الأئمة وغيرهم رضي الله عنهم، يدل على أنهم ألزموا قبول خبر الواحد الصحيح في الاعتقاد والعمل، ولم يفرقوا بينهما في حكم اللزوم هذا.
نعم إنهم فرقوا في هذا الموضوع تفريقاً آخر، هو التفريق في بعض النتائج بين خبر الواحد الصحيح وبين الخبر المتواتر. وهذا الفرق هو أنهم قالوا: من أنكر مسالة فكرية وردت في خبر آحادي صحيح فإنه لا يحل له ذلك ويأثم، لكنه لا يكفر، أما إذا جحد ما ثبت بالتواتر القطعي أو بنص القرآن القطعي فإنه يكفر عياذاً بالله تعالى.
والسبب في ذلك ما ذكرناه أن إنكار النص اليقيني القطعي يعني التكذيب بالشارع لا محالة، أما إنكار الخبر الآحادي ففيه شبهة احتمال الإنكار على الرواة، وشبهة خطئهم، لما عرفنا أن رواة الخبر الصحيح غير معصومين من الخطأ والكذب، وإن كان ذلك مستبعداً كما ذكرنا، لكن ذلك أورث شبهة منعت من الحكم عليه بالكفر.
وكلام الإمام الشافعي الذي ذكرناه واضح في هذا الحكم قال: "ولو شك في هذا شاك لم نقل له تب، وقلنا: ليس لك إن كنت عالماً أن تشك كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة الشهود العدول، وإن أمكن فيهم الغلط، ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم، والله ولي ما غاب عنك منهم".
وقال الإمام صدر الشريعة في كتاب التوضيح في أصول الحنفية: والواجب لازم عملاً، لا علماً، فلا يكفر جاحده، بل يفسق إن استخف بأخبار الآحاد الغير المؤولة، وأما مؤولاً فلا".
ومعنى قوله مستخفاً أي بغير حجة على الإنكار، بدليل مقابلته بالمتأول. أما المستخف حقيقة فحكمه أشد.
وبهذا تكون قضية الخبر الآحادي الصحيح المجرد عن القرائن قد استكملت بيانها بما فيه الكفاية حسب مقتضى هذا المقام هنا إن شاء الله تعالى.
أثر الحديث الصحيح المحتف بالقرائن في العقيدة:
إذا كان التصديق يلزم بالحديث الصحيح الآحادي المجرد عن القرائن المقوية له، فإن من الأولى إلزام الاعتقاد بالحديث الصحيح المحتف بقرائن تجعله يفيد العلم النظري.
لكن هل يبلغ خبر الآحاد قوة إفادة العلم بالقرائن، أو لا يمكن أن يبلغ ذلك المبلغ:
يرى الإمام الغزالي أن القرائن قد ترقى بالخبر الصحيح إلى إفادة العلم، ويقول في ذلك (34).
"ومجرد القرائن أيضاً قد يورث العلم، وإن لم يكن فيه إخبار، فلا يبعد أن تنضم القرائن إلى الأخبار فيقوم بعض القرائن مقام بعض العدد من المخبرين، ولا ينكشف هذا إلا بمعرفة معنى القرائن وكيفية دلالتها، فنقول: لا شك في أنا نعرف أموراً ليست محسوسة، إذ نعرف من غيرنا حبه لإنسان وبغضه له وخوفه منه وغضبه وخجله، وهذه أحوال في نفس المحب والمبغض، لا يتعلق الحس بها قد تدل عليها دلالات آحادها ليست قطعية بل يتطرق إليها الاحتمال، ولكن تميل النفس بها إلى اعتقاد ضعيف، ثم الثاني والثالث يؤكد ذلك، ولو أفردت آحادها لتطرق إليها الاحتمال، ولكن يحصل القطع باجتماعها.
¥