ثم إن خفة العقل والطيش .. إنما تكون مرتبطة بالشبيبة .. فلعل هذا كان منه في مقتبل العمر .. قبل أن يرحل ويفهم ويعر ف .. (ثم تاب وارعوى) ..
ومع هذا فالطيش .. (والشغب) .. معروف في المحدثين .. ولم يعتبره العلماء من قبيل الجرح الذي ترد به الرواية .. (وهل تريد أن يكون الكل كالإمام أحمد بن حنبل .. أوكمحمد بن نصر .. في الرزانة ولجلالة.
وإن شئت ذكرت لك أئمة .. كان فيهم شيء من هذا .. وأشباهه.
ولعل المراد بطيشه وخفته .. ما يفعله كثير من المحدثين من الشغب في المذاكرة .. وما يفعله البعض من امتحان لشيوخهم.
ومثل هذا قد ثبت عليه:
حيث قال: ((كان العقيلي جليل القدر عظيم الخطر ما رأيت مثله .. وكان كثير التصانيف .. فكان من أتاه من المحدثين .. قال: اقرأ من كتابك .. ولا يخرج أصله.
قال: فتكلمنا في ذلك .. وقلنا: إمَّا أن يكون من أحفظ الناس .. وإمَّا أن يكون من أكذب الناس.
فاجتمعنا فاتفقنا على أن نكتب له أحاديث من روايته .. ونزيد فيها وننقص فأتيناه لنمتحنه!! فقال لي: (اقرأ فقرأتها عليه) .. فلما أتيت بالزيادة والنقص .. فطن لذلك فأخذ مني الكتاب .. وأخذ القلم فأصلحها من حفظه .. فانصرفنا من عنده .. وقد طابت نفوسنا وعلمنا أنه من أحفظ الناس)).
ومثل هذا لم يكن يرتضيه الكبراء من المحدثين .. لأن فيه .. كشف لستر المحدث فربما يهم أو يخطئ .. أو لثقته بالقارئ يغفل عما دس له .. فيكون هذا سببًا في ضعفه .. (بغير وجه حق) .. وإنما ينجح في مثل هذا الامتحان الثقات الحفاظ من الناس ..
وقد فعله ابن معين .. (وهو هو).
قال أحمد بن منصور الرمادي: خرجت مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين إلى عبد الرزاق خادمًا لهُما .. فلما عدنا إلى الكوفة .. قال يحيى بن معين: لأحمد بن حنبل أريد أختبر أبا نعيم .. فقال له أحمد: لا نريد الرجل ثقة .. فقال يحيى: لابد لي فأخذ ورقة فكتب فيها ثلاثين حديثًا من حديث أبي نعيم .. وجعل على رأس كل عشرة منها حديثًا ليس من حديثه .. ثم جاءوا إلى أبي نعيم .. فدقوا الباب فخرج فجلس على دكان طين حذاء بابه .. وأخذ أحمد بن حنبل فأجلسه عن يمينه .. وأخذ يحيى فأجلسه عن يساره .. ثم جلست أسفل الدكان .. ثم أخرج يحيى الطبق .. فقرأ عليه عشرة أحاديث .. وأبو نعيم يسمع .. ثم قرأ الحادي عشر .. فقال أبو نعيم: ليس من حديثي اضرب عليه .. ثم قرأ العشر الثاني .. وأبو نعيم ساكت .. فقرأ الحديث الثاني .. فقال أبو نعيم: ليس من حديثي فأضرب عليه .. ثم قرأ العشر الثالث .. وقرأ الحديث الثالث .. فتغير أبو نعيم .. وانقلبت عيناه .. ثم أقبل على يحيى بن معين .. فقال له: أمَّا هذا وذراع أحمد بن حنبل بيده فأورع من أن يعمل مثل هذا .. وأما هذا يريدني فأقل من أن يفعل مثل هذا .. ولكن هذا من فعلك يافاعل .. ثم أخرج رجله فرفس يحيى بن معين فرمى به من الدكان .. وقام فدخل داره .. فقال أحمد ليحيى: ألم أمنعك من الرجل .. وأقل لك إنه ثبت .. قال: والله لرفسته لي أحب إلي من سفرتي!!.
وهذا بعض ما كان يفعله بعض المحدثين .. مما يراه غيرهم دليلاً على الطيش والخفة .. وعدم احترام الشيوخ.
ومن القصص في هذا ما حصل من أبي بكر أحمد بن علي الرازي الحافظ .. حيث امتحن الحسن بن سفيان بحضرة ابن خزيمة وغيره من المحدثين .. حيث أدخل له بعض الأسانيد في حديثه مما ليس من روايته مرتين .. فلما كان في الثالثة .. قال: ما هذا؟ فقد احتملتك مرتين .. وهذه الثالثة .. وأنا ابن تسعين سنة .. فاتق الله في المشايخ .. فربما استجيبت فيك دعوة.
وإلى لقاء قريب في (الحلقة الرابعة).
وكتب محبكم يحيى العدل (إعادة في 1/ 4/1423هـ).
ـ[يحيى العدل]ــــــــ[15 - 06 - 02, 02:16 م]ـ
(الحلقة الرابعة)
الأمر الثالث: رميه بالتشبيه ..
وهذا كفانا فيه ابن حجر .. وجوابه ينسحب على كل ما رُمي به مما ذكرنا قبلُ ..
فقد رجح ابن حجر أن هذا من التحامل عليه .. فليس لقائله قول ولا دليل يركن إليه.
قلت: فإذا ثبت التحامل عليه في شيءٍ مما ذكرنا .. فالأمر محتمل فيما عداه ..
وهنا لا بد من البينة الجازمة .. الثابتة عليه .. وإلا لم نقبل ما قيل فيه: ولا كرامة ..
{قل هاتوا برهانكُم إن كنتُم صادقين}.
أيُعمد إلى رجل من أهل الحديث؟! .. ممن وقف نفسه للرحلة فيه .. وجمع تراجم الرواة وتكلم عليهم جرحًا وتعديلاً .. ذبًا عن السنة وأهلها .. فيُسقط بأقاويل أناس غير ذوي معرفة .. بل وليسوا حتى من أهل الحديث ..
إنما يُقبل قول الأئمة العارفين بأسباب الجرح .. مع تمام الفهم والعناية بهذا الشأن. . والتقوى وكمال الورع.
ومسلمة بن القاسم ممن له العناية التامة بهذا الشأن .. وقد ثبتت عدالته ومعرفته .. وفهمه .. وجلالته .. فلا ننتقل عن هذا إلا ببينة نيرة .. كالشمس في رابعة النهار.
قال الإمام أحمد: ((كل رجل ثبتت عدالته .. لم يقبل فيه تجريح أحد .. حتى يتبين ذلك عليه .. بأمر لا يحتملُ غير جرحه)). التهذيب.
وقال ابن جرير الطبري: ((لو كان كل من ادُّعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة .. ثبت عليه ما ادُّعي عليه .. وسقطت عدالته .. وبطلت شهادته بذلك: للزم ترك أكثر محدثي الأمصار .. لأنه ما منهم أحد .. إلا وقد نسبه قوم إلى ما يُرغب عنه.
ومن ثبتت عدالته لم يُقبل فيه الجرح .. وما تسقط العدالة بالظن)) اهـ.
(هدي الساري).
وقد عقد ابن عبد البر في جامعه بابًا في (حكم قول بعض العلماء بعضهم في بعض).
ومما قال فيه: ((الصحيح في هذا الباب أن من ثبتت عدالته .. وصحت في العلم إمامته .. وبانت ثقته .. وبالعلم عنايته .. لم يُلتفت فيه إلى قول أحد .. إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة .. تصح بها جرحته على طريق الشهادات)). اهـ.
وكتب محبكم / يحيى (العدل) في 4/ 4/1423هـ.
وإلى لقاء في الحلقة (الخامسة).
¥