فالجزء الأول من هذا الإسناد لم يسلم من الخلل حيث أن أبا بكر محمد بن عبد الباقي، شيخ ابن الصلاح لم يكن متأهلا للسماع والتحمل وقت سماعه من أبي إسحاق الكجي، فقد قال الذهبي: بكر به ـ يعني محمد بن عبد الباقي ـ أبوه، وسمعه من أبي إسحاق البرمكي، جزء الأنصاري وما معه حضورا في السنة الربعة (15).
وعليه فلا ينبغي التسرع إلى تصحيح مثل هذه الأحاديث اغترارا بشهرة السلسلة في الجزء الثاني من إسناد المتأخرين لأنه ينبغي التحقق من ثبوت الحديث عن ذلك الجزء المشهور وذلك بورود نص على صحته في كتاب معتمد، وثبوته عن أحد من أئمة الحديث، ولا شك أن عملية التصحيح باعتبار جميع أجزاء الإسناد ـ دون الاعتماد على ما نص عليه الأئمة في كتبهم المعتمدة ـ أمر يكاد يكون متعذرا، إن لم يكن كذلك لصعوبة تحقق سلامة الإسناد في المرحلة الثانية من جميع النقائص. وفي ختام هذا التحليل التاريخي للمرحلتين اللتين مرت بهما السنة النبوية، يصبح من اليسير تحرير الأمور التي وقعت في كلام ابن الصلاح، وتحديد مقصوده منها
مقصود ابن الصلاح بالأجزاء وغيرها
فالأجزاء، وإن كانت تطلق على جميع المصنفات التي تعالج مسائل جزئية، إلا أن التي تعرض لها ابن الصلاح وخصصها بمسألة التصحيح لا يقصد بها جميع المصادر الحديثية، وإنما يرد بها هنا تصانيف المتأخرين التي يجمعون فيها بعض الأحاديث التي سمعوها بأسانيد عالية.
والمقصود بغيرها في كلام ابن الصلاح، ما هو على شاكلة الأجزاء، من مشيخات، وأثبات، وفهارس، وبرامج وغيرها من التأليفات التي يورد فيها المتأخرون الأحاديث بأسانيدهم العالية والطويلة حسب مناسبات تراجم الشيوخ الذين تلقوها منهم، وغيرهم، ومن هنا يظهر وجه تخصيص ابن الصلاح الأجزاء بالذكر في مستهل كلامه رغم شهرة المسانيد والسنن وكثرة تداولها لديهم.
توجيه رأي ابن الصلاح وتحقيقه
وعليه، فقد أصبح واضحا مغزى قوله: " تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار السند " لأن أسانيد الأحاديث التي تمر بالمرحلتين جميعا لا يسلم الجزء الذي يمر بالمرحلة الثانية منها من خلل قادح في الصحة، وذلك ناتج عن التساهل في مراعاة شروطها الضرورية في حق الرواة المتأخرين كما سبق توضيحه آنفا، فالتصحيح بالاعتماد على سندها ـ إذن ـ أمر متعذر.
وأما إذا لم يعتبر ذلك الجزء من الإسناد، وإنما يعتمد على الجزء الثاني المسجل في المدونات الثابتة المعتمدة فلا يبقى أي مبرر لتعذر التصحيح وصعوبته، ويبقى الأمر متوقفا فقط على أهلية الباحث للدراسة والنقد، وهو ما لم يتعرض له ابن الصلاح هنا، وإنما كلامه متجه إلى الأحاديث التي ترد في "الأجزاء " والمشيخات "وغيرها.
ومن هنا تم له الاستدلال بقوله: " ما من إسناد من ذلك أي مما يروي في الأجزاء وغيرها، إلا ونجد فيه خللا " إذ أنه لم يقصد به التعميم والشمولية، وإنما كلامه مرتبط بالجزء الأول من أسانيد الأحاديث الذي يمر بالمرحلة الثانية، وبهذا يزول التناقض الظاهري بين كلام ابن الصلاح هذا، وبين قوله السابق " إذا وجدنا فيما نروي من أجزاء حديثية وغيرها حديثا صحيح الإسناد "، إذ أنه يحتمل أن يكون مراده بصحيح الإسناد الجزء الثاني من الإسناد والمتمثل في سلسلة رواة معروفين، مثل: مالك عن نافع عن ابن عمر، ونحوه، أو أن يكون المقصود به صحته ظاهرا بكون الأشخاص المذكورين في السند معروفين، فإن الخلل يقع غالبا من جهة التلقي أو الأداء، وذلك أمر غامض.
فابن الصلاح لم يرد جميع الأحاديث في مسألة التصحيح ومنعه، حسبما يدل على ذلك سياق كلامه، وإنما قصد خصوص ما ورد في الأجزاء ونحوها فحسب، ولا يشكل قوله: " فآل الأمر إذاً في معرفة الصحيح والحسن ... إلخ " على ما ذكرنا، معناه: في معرفة صحة أو حسن أحاديث الأجزاء ونحوها، وليس مطلق الأحاديث.
¥