"وهذا في الظاهر مقبول إلا أنه لا يحسن التعبير عنه بالتعذر، ثم الاستدلال على صحة دعوى التعذر بدخول الخلل في رجال الإسناد، فقد بينا أن الخلل إذا سلم إنما هو فيما بيننا وبين المصنفين، أما من المصنفين فصاعدا فلا، وأما ما استدل به شيخنا ـ وهو العراقي ـ على صحة ما ذهب إليه الشيخ محي الدين ـ النووي ـ من جواز الحكم بالتصحيح لمن تمكن وقويت معرفته، بأن من عاصر ابن الصلاح قد خالفه فيما ذهب إليه، وحكم بالصحة لأحاديث لم يوجد لأحد من المتقدمين الحكم بتصحيحها، فليس بدليل ينهض على رد ما اختاره ابن الصلاح، لأنه مجتهد وهم مجتهدون، فكيف ينقض الاجتهاد بالاجتهاد؟ وما أوردناه في نقض دعواه أوضح فيما يظهر،"والله أعلم، انتهى قول الحافظ (24).
وقد تبع هؤلاء الأئمة في هذا كل من جاء بعدهم، وسلكوا مسلكهم، واقتفوا طريقهم، وساروا على أسلوبهم، وأصبح ما ذكره الإمام النووي أمرا مسلما لديهم.
الحافظ السيوطي ومحاولة الاستدراك عليهم
غير أن الحافظ السيوطي ـ رحمه الله ـ حاول أن يجمع بين قول ابن الصلاح وقول المعترضين عليه محاولة لم تسلم من تعسف وتكلف كما يظهر ذلك جليا من الفقرات الآتية المخصصة للعرض والمناقشة.
يقول الحافظ السيوطي: " والتحقيق عندي أنه لا اعتراض على ابن الصلاح، ولا مخالفة بينه وبين من صحح في عصره أو بعده، وتقرير ذلك أن الصحيح قسمان: صحيح لذاته، وصحيح لغيره كما هو مقرر في كتاب ابن الصلاح وغيره، و الذى منعه ابن الصلاح إنما هو القسم الأول دون الثاني، كما تعطيه عبارته، وذلك أنه يوجد في جزء من الأجزاء حديث بسند واحد من طريق واحد، لم تتعدد طرقه، ويكون ظاهر الإسناد الصحة لاتصاله، وثقة رجاله، فيريد الإسناد أن يحكم لهذا الحديث بالصحة لذاته بمجرد هذا الظاهر، ولم يوجد لأحد من أئمة الحديث الحكم عليه بالصحة، فهذا ممنوع قطعا، لأن مجرد ذلك لا يكتفي به في الحكم بالصحة،
بل لابد من فقد الشذوذ ونفي العلة، والوقوف على ذلك الآن متعسر بل متعذر، لأن الاطلاع على العلل الخفية إنما كان للأئمة المتقدمين لقرب أعصارهم من عصر النبي صلى الله عليه وسلم، فكان الواحد منهم من يكون شيوخه التابعين، أو أتباع التابعين، أو الطبقة الرابعة، فكان الوقوف على العلل إذ ذاك متيسرا للحافظ العارف، وأما الأزمان المتأخرة فقد طالت فيها الأسانيد، فتعذر الوقوف على العلل إلا بالنقل من الكتب المصنفة في العلل فإذا وجد الإنسان في جزء من الأجزاء حديثا بسند واحد ظاهره الصحة لاتصاله وثقة رجاله، لم يمكنه الحكم عليه بالصحة لذاته لاحتمال أن تكون له علة خفية لم يطلع عليها لتعذر العلم بالعلل في هذه الأزمان ".
"أما القسم الثاني، فهذا لا يمنعه ابن الصلاح ولا غيره وعليه يحمل صنيع من كان في عصره ومن جاء بعده، فإني استقريت ما صححه هؤلاء فوجدته من قسم الصحيح لغيره لا لذاته ".1هـ (25).
مناقشة رأي السيوطي
فعسى الحافظ السيوطي ـ رحمه الله ـ من خلال هذا التحليل أن يوجه كلام ابن الصلاح توجيها حسنا كي يوفق بينه وبين المعترضين عليه في مجال التصحيح، إلا أن سعيه هذا ذهب بعيدا عن الواقع العلمي، وعن المرتكزات الأساسية التي استند إليها ابن الصلاح تدعيما لرأيه، كما سيتضح ذلك جليا من الآتي:
يستخلص من تعقيب السيوطي أن المانع من التصحيح في الأعصار المتأخرة مرجعه إلى صعوبه الاطلاع على الشذوذ والعلة، وتعذر الكشف عنهما في خبايا الروايات عند المتأخرين نظرا إلى تأخر عهدهم عن عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وطول أسانيدهم، ونزولها إلى حد بعيد، ومن ثم حمل النصوص الواردة في منع التصحيح على الصحيح لذاته، وجعل ما صححه المتأخرون من قسم الصحيح لغيره، مدعيا بأن التعارض بين ابن الصلاح ومخالفيه قد زال بذلك.
ومما لا شك فيه أن سلامة الحديث من الشذوذ والعلة من أهم عناصر القبول، سواء كان الحديث صحيحا لذاته أم صحيحا لغيره، أو كان حسنا لذاته أو لغيره باتفاق المحدثين كما قرره الحافظ ابن الصلاح في مبحث الصحيح والحسن من مقدمته.
¥