2 - إن هذا الميزان ميزان اعتباري بحسب العقول والعصور كذلك، فما نعده نحن اليوم حديث خرافة، كان يعتبر في بعض العصور الماضية حقيقة من حقائق العلوم والمعارف الرسمية حينذاك.
والشواهد على هذا كثيرة.
وما نعتبره نحن اليوم حقيقة علمية مقررة، لو ذكر لمن سبقونا لاعتبروا قائله مجنونا، ولحكموا عليه بالإعدام. وقد فعلوا , وتلك طبيعة التطور العلمي. يوما كنا لنكلف سلفنا فوق ما يطيقون، وجزاهم الله أفضل الجزاء بما جاهدوا.
أما الأخذ بميزان تمحيص الإسناد، ومعرفة حال الرواة، والحكم على درجة الحديث بهذا الاعتبار، فهو أدق الموازين وأضبطها , لأنه يعتمد على أمور حسية واقعية، لا يختلف معها النقد الصحيح إلا إذا تدخلت الغايات والأهواء. ومن حسن الحظ أنها لم تتدخل إلا بعد أن تناولت هذا الميزان أطهر النفوس، وأنقى القلوب، وأعف الأيدي، فنفت عنه تحريف الغالين، وتأويل المبطلين , والحمد لله رب العالمين.
3 - ولهذا كان ما عرف من الأحاديث التي حكم عليها أهل هذا الفن بالصحة مخالف لبعض مقررات العلوم قليلا جدا، نادرا كل الندرة، قد أحصى وعرف، فلم يتعد العشرات إلى المئات إن لم يكن الآحاد , وكثير منها يمكن التوفيق بينه وبين هذه المقررات بضرب مقبول ميسور من التأويل، والباقي يحمل على أنه رواية بالمعنى لم يدقق فيها الراوي , و (قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) (يوسف:41).
وسنعرض لشيء من الأمثلة خلال هذا البحث إن شاء الله.
المتواتر والآحاد
الحديث المتواتر:
هو ما نقل عن عدد من الرواة يحصل العلم بصدقهم ضرورة بأن يكونوا جمعا، لا يمكن تواطؤهم على الكذب، يروونه عن مثلهم عن مثلهم إلى رسول الله "صلى الله عليه وسلم".
ولهذا كان مفيدا للعلم الضروري، ويجب العمل واختلفوا في تحديد هذا العدد: فمن قائل أربعة، ومن قائل سبعة، ومن قائل عشرة، ومن قائل سبعين , ولم يجمع أهل الفن على عدد معين.
والمتواتر قسمان:
لفظي: وهو ما تواتر لفظه.
ومعنوي: وهو ما تواتر القدر المشترك فيه. وللأول أمثلة كثيرة منها:
ـ حديث (من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار). رواه نحو المائتين.
ـ وحديث المسح على الخفين. رواه سبعون.
ـ وحديث رفع اليدين في الصلاة. رواه نحو الخمسين.
ومن أمثلة الثاني: أحاديث رفع اليدين في الدعاء. وقد روي عنه "صلى الله عليه وسلم" نحو مائة حديث فيها: رفع يديه في الدعاء, ولكنها في قضايا ومواضع مختلفة , فكل موضع منها لم يتواتر، ولكن القدر المشترك وهو: رفع اليدين في الدعاء تواتر باعتبار المجموع.
ـ والأحاديث المتواترة قليلة طبعا لدقة هذا الشرط، وتعسر توفره، خصوصا إذا بالغنا في العدد، وأخذنا بقول من حددوه بالمائة أو بالسبعين أو نحوها. ولهذا أثر عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه لم يظفر من المتواتر إلا بسبعة عشر حديثا، فحرف هذا المعنى بعض المغرضين الذين يريدون أن يهربوا من القول بحجية الحديث، ووجوب العمل به، وزعموا أن أبا حنيفة مع جلالة قدره في الفقه لم يجد من الأحاديث الصحيحة إلا سبعة عشر حديثا، فوضع الصحيح بدلا من المتواتر، للاستدلال على ما يريدون، وهو زعم غير صحيح، وقد نبهنا عليه.
الحديث الآحاد:
وأما حديث الآحاد: فهو ما لم يتوفر فيه شرط التواتر السابق.
وجوب العمل بخبر الآحاد:
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح مقدمة مسلم:
(نبه مسلم رحمه الله تعالى على القاعدة العظيمة التي ينبني عليها معظم أحكام الشرع وهى: وجوب العمل بخبر الواحد، فينبغي الاهتمام بها، والاعتناء بتحقيقها).
وقد أطنب العلماء رحمهم الله في الاحتجاج لها وإيضاحها , وأفردهما جماعة من السلف بالتصنيف، واعتنى بها أئمة المحدثين , وأول من بلغنا تصنيفه فيها الإمام الشافعي رحمه الله , وقد تقررت أدلتها النقلية والعقلية في كتب أصول الفقه, ونذكر هنا طرفا فنقول: اختلف العلماء في حكمه:
ـ فالذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول: أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع، يلزم العمل بها، ويفيد الظن، ولا يفيد العلم.
وإبطال قول من قال لا حجة فيه ظاهر:
¥