(مِنْ جِدَارٍ أَوْ شَيْءٍ شَاخِصٍ كَحَرْبَةٍ أَوْ آدَمِيٍّ غَيْرِ كَافِرٍ) لِأَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِقْبَالُهُ كَمَا تَقَدَّمَ (أَوْ بَهِيمٍ) يَعْرِضُهُ، وَيُصَلِّي إلَيْهِ (أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، مِثْلِ آخِرَةِ الرَّحْلِ تُقَارِبُ طُولَ ذِرَاعٍ فَأَكْثَرَ).
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلَ مُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ فَلْيُصَلِّ، وَلَا يُبَالِي مَنْ يَمُرُّ وَرَاءَ ذَلِكَ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ (فَأَمَّا قَدْرُهَا) أَيْ السُّتْرَةُ (فِي الْغِلَظِ فَلَا حَدَّ لَهُ فَقَدْ تَكُونُ غَلِيظَةً كَالْحَائِطِ أَوْ دَقِيقَةً كَالسَّهْمِ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {صَلَّى إلَى حَرْبَةٍ وَإِلَى بَعِيرٍ} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (وَيُسْتَحَبُّ قُرْبُهُ مِنْهَا قَدْرَ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ مِنْ قَدَمَيْهِ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْجِدَارُ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ} رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَلِأَنَّهُ أَصْوَنُ لِصَلَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ قَرُبَ مِنْ الْجِدَارِ أَوْ السَّارِيَةِ نَحْو ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي الْفَضَاءِ فَإِلَى شَيْءٍ شَاخِصٍ مِمَّا سَبَقَ.
قَالَ {اسْتَتِرُوا فِي الصَّلَاةِ وَلَوْ بِسَهْمٍ} رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَقَوْلُهُ وَلَوْ بِسَهْمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى مِنْهُ (وَيَكْفِي) فِي السُّتْرَةِ (خَيْطٌ وَنَحْوُهُ وَ) كُلُّ (مَا اُعْتُقِدَ سُتْرَةً فَإِنْ لَمْ يَجِدْ خَطَّ خَطًّا) نَصَّ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَنْصِبْ عَصًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَصًا فَلْيَخُطَّ خَطًّا، وَلَا يَضُرُّهُ مَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ} رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ فِيهِ رَجُلًا مَجْهُولًا وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ فِي مِثْلِ هَذَا.
وَصِفَته كَالْهِلَالِ لَا طُولًا لَكِنْ قَالَ فِي الشَّرْحِ: وَكَيْفَمَا خَطَّ أَجْزَأَهُ أهـ.
*قال ابن عثيمين في الشرح (2/ 309):"وقال بعض أهل العلم: إنه إذا لم يخشَ مارًّا فلا تُسَنُّ السُّتْرة. ولكن الصحيح أن سُنيَّتها عامة، سواء خشي المارَّ أم لا.
وعُلم من كلامه: أنَّها ليست بواجبة، وأنَّ الإنسان لو صَلَّى إلى غير سُترة فإنه لا يأثم، وهذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم؛ لأنها من مكمِّلات الصَّلاة، ولا تتوقَّفُ عليها صحَّة الصَّلاة، وليست داخل الصَّلاة ولا مِن ماهيَّتها حتى نقول: إنَّ فقدَها مفسدٌ، ولكنها شيء يُراد به كمال الصَّلاة، فلم تكن واجبة، وهذه هي القرينة التي أخرجت الأمر بها من الوجوب إلى الندب.
واستدلَّ الجمهور بما يلي:
1 - حديث أبي سعيد الخدري: «إذا صَلَّى أحدُكم إلى شيءٍ يستُره من النَّاسِ؛ فأراد أحدٌ أن يجتازَ بين يديه؛ فَلْيَدْفَعْهُ» فإن قوله: «إذا صَلَّى أحدُكم إلى شيء يستره» يدلُّ على أن المُصلِّي قد يُصلِّي إلى شيء يستره وقد لا يُصلِّي، لأن مثل هذه الصيغة لا تدلُّ على أن كلَّ الناس يصلون إلى سُتْرة، بل تدلُّ على أن بعضاً يُصلِّي إلى سُتْرة والبعض الآخر لا يُصلِّي إليها.
2 - حديث ابن عباس: «أنَّه أتى في مِنَى والنبي صلى الله عليه وسلم يصلِّي فيها بأصحابه إلى غير جدار».
3 - حديث ابن عباس «صَلَّى النبي صلى الله عليه وسلم في فضاء ليس بين يديه شيء» وكلمة «شيء» عامة تشمل كلَّ شيء، وهذا الحديث فيه مقال قريب، لكن يؤيِّده حديث أبي سعيد، وحديث ابن عباس السابقان.
4 - أن الأصل براءة الذِّمَّة.
القول الثاني: أن السُّتْرة واجبة؛ للأمر بها. وأجابوا عن حديث ابن عباس: «يُصلِّي في فضاء إلى غير شيء» بأنه ضعيف، وعن حديثه: «يُصلِّي إلى غير جدار» بأن نفي الجدار لا يستلزم نفي غيره، وحديث أبي سعيد يدلُّ على أن الإنسان قد يُصلِّي إلى سُترة وإلى غير سترة، لكن دلَّت الأدلَّة على الأمر بأنه يُصلِّي إلى سُترة.
¥