قال شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة رحمه الله في رسالته في القراءة خلف الإمام (مجموع الفتاوى 23/ 289): و هذا يدل على أنه ليس المراد به قراءة المأموم حال سماعه لجهر الإمام، فإن أحدًا لا يقول إن زيادته على الفاتحة و ترك إنصاته لقراءة الإمام في هذه الحال خير، و لا أن المأموم مأمور حال الجهر بقراءة زائدة على الفاتحة. اهـ
قلت: لكن تأول بعض العلماء هذا اللفظ بإرادة الحد الأدنى الذي لا تجزئ الصلاة إلا به، و هي الفاتحة. قال البخاري رحمه الله في " جزء القراءة ": هو كقوله: " لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا "، فقد تقطع اليد في دينار و في أكثر من دينار.اهـ
و يؤيد هذا التأويل حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج – ثلاثاً – غير تمام " أخرجه مسلم و غيره، و سيأتي توجيهه إن شاء الله.
و استدل أصحاب هذا القول بحديث عبادة سالف الذكر. و قد سبق بيان علله و أنه لا يصلح للإحتجاج.
و بما رواه محمد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب محمد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعلكم تقرؤون والإمام يقرأ؟ قالها ثلاثا، قالوا: إنا لنفعل ذاك. قال: فلا تفعلوا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب ".
أخرجه أحمد (20618 – 20784 – 23528) و البخاري في " جزء القراءة " و البيهقي في " السنن " (2749) كلهم عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن محمد بن أبي عائشة به. و قال البيهقي: هذا إسناد جيّد.اهـ
قلت: قال ابن القيم في " تهذيب السنن " (3/ 37): و لكن لهذا الحديثة علة و هي أن أيوب خالف فيه خالدا ورواه عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، و هو كذلك في " تاريخ البخاري " عن مؤمل عن إسماعيل بن علية عن أيوب عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم.اهـ
و قال الدارقطني في " العلل " (9/ 65): و المرسل الصحيح.اهـ
و قال ابن عبد البر في " الإستذكار " (1/ 468): إنه حديث منقطع مرسل.اهـ
و حتى لو سلمنا أن رواية خالد الحذاء محفوظة، فإنما فيه " إلا أن يقرأ أحدكم بأم القرآن في نفسه "، و معلوم أن القراءة في النفس ما لم يحرك بها اللسان فليست بقراءة و إنما هي حديث النفس بالذكر، و حديث النفس متجاوز عنه لأنه ليس بعمل يؤاخذ عليه فيما نهى أن يعمله أو يؤدى عنه فرضا فيما أمر بعمله.
وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي: إن كانت قراءة الإمام بغير أم القرآن قراءة لمن خلفه فينبغي أن تكون أم القرآن كذلك. و إن كانت لا تكون قراءة لمن خلفه فقد نقص من خلف الإمام عما سن من القراءة للمصلين وحرم من ثواب القراءة بغير أم الكتاب ما لا يعلم مبلغه إلا الله عز وجل. كذا في " التمهيد " (11/ 46)
و المذهب الثاني: وجوبها في السرية دون الجهرية لقول الله تعالى [وَ إِذَا قُرِأَ القُرْآنُ فآسْتَمِعُوا لَهُ و أَنْصِتُوا لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ]، و لقوله صلى الله عليه و سلم: " و إذا قرأ فأنصتوا ". و قالوا: إنهما مخصصان لقوله: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ".
قلت: ليس في الآية و الحديث سوى الإنصات و الإستماع عند قراءة الإمام. و الإنصات في اللغة: السكوت، و هذا يعم القراءة الجهرية و السرية، و قد أنكر النبي صلى الله عليه و سلم قراءة مَنْ قرأ خلفه في إحدى صلاتي العشيّ.
والمذهب الثالث: ترك القراءة في الجهرية و مشروعيتها أو استحبابها في السرية، و دليله ما استُفيض عن السلف من كون الإمام ينوب عن المأموم في القراءة. و من صحح حديث " من كان له إمام فقراءة إمامه قراءة له " يلزمه القول بهذا. و الحديث ينبغي أن لا ينزل عن درجة الحسن الذي يصلح للإحتجاج، و هو في مطلق القراءة، و من فرّق فما أصاب. و له شواهد كثيرة منها:
عن كثير بن مرة الحضرمي قال: سمعت أبا الدرداء يقول: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي كل صلاة قراءة؟ قال: نعم. فقال رجل من الأنصار: وجبت هذه. فالتفت إليّ أبو الدرداء - وكنت أقرب القوم منه - فقال: يا ابن أخي ما أرى الإمام إذا أمَّ القوم الا قد كفاهم ".اهـ
¥