ما استدل به سعيد بن الحداد القروي أنه قال: إن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- علم أن الصحابة لما بلغهم تحريم هذه الخمر أراقوها في سكك المدينة فجرت في سكك المدينة، ولو كانت نجسة لما جاز لهم أن يلوثوا الطرق بالنجاسة، ولنهاهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عن هذا الفعل كما نهاهم عن التخلي في الطرقات.
الأمر الثاني: أنهم قالوا لا شك إن الخمر محرمة لكنه فرق بين التحريم وبيت التنجيس، والأدلة المسوقة تفيد حرمة الخمر لكنها لا تدل على نجاسة الخمر نجاسة حسية وإنما تدل على النجاسة المعنوية والنجاسة المعنوية موجودة في الميسر الأنصاب والأزلام وهي موجودة أيضا في الخمر فالخمر كالميسر والأنصاب والأزلام، النجاسة فيها نجاسة معنوية وليست نجاسة عينية أو نجاسة حسية.
ناقش الجمهور حجج المخالفين فقالوا:
إن إراقة الصحابة -رضي الله عنهم- للخمر في طرقات المدينة كان على سبيل التخلص منها حيث لم يكن في بيوتهم كنف يعني حمامات، وكانوا يستقذرون أن يتخذوا الكنف في البيوت فلم يكن لديهم مجاري يصرفون فيها الخمر ولا آبار ولا مسارب لتصب فيها هذه الخمور فلم يكن بد من إراقتها في الطرقات.
ثم إن الخمر لم تكن بالكثرة بحيث تمنع الناس من أن يسيروا في الطرقات يعني إن جرى بها طريق أو جرت بها طرق فإن هذا لا يعني أن الخمر استوعبت جميع طرقات المدينة، وإذا جرت في طريق فلا يعني أيضا إنها تجري في جميع الطريق بحيث يمتنع أن يسير في هذا الطريق إنسان.
هذا مما يرد به على قولهم إنهم قد نجسوا الطريق، وهذا يدل على طهارتها وأيضا إراقة الخمر في الطرقات فيه إشهار للتحريم ومعلوم أن العرب كانوا متعلقين بالخمر تعلقا شديدا فمبادرتهم إلى إراقتها -رضي الله تعالى عنهم- فيه تمام وكمال الامتثال إلى أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ثم إن إراقتها في التراب وفي الطرقات يكون سببا لزوال نجاستها وليس تنجيس الطرقات لأنها إذا خلطت التراب والشمس والهواء استحالت وتغيرت وتحولت إلى شيء طاهر لأن التراب بنفسه طهور وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- (أن ذيل المرأة إذا مر على نجاسة في طريق فإن مرورها على ذلك التراب الطاهر الذي يكون بعده يطهر هذه الذيل)؛ إذن لا يسلم لهم هذا الكلام.
لكن يبقى أنهم قالوا لو كان ذلك لنهى النبي -صلى الله عليه وسلم- كما نهى عن التخلي في الطرقات: أين التخلي في الطرقات من الكلام على نجاسة الخمر؟
إن التخلي في الطرقات لو لم ينه عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- لبقى إلى يوم الناس هذا لأنه سيقع وسيظل يقع، أما الخمر فإنها كانت متخذة في البيوت حين جاء التحريم ليقطع وجودها من البيوت، فإراقتها لمرة واحدة، بعدها لم يعلم أن هذه الخمر سارت تسكب أو تراق في الطرقات، فالنهي عن التخلي في طرق الناس وقضاء الحاجة في طرق الناس نهي لأمر قد يدوم ما لم يقع النهي ونهي لأمر يخل بالمروءة فكان من ذلك تحريمه -صلى الله عليه وآله وسلم-.
أيضا يبقى معنا أن نقول بأن الجمهور قالوا: إن الشريعة بالغت في كف الناس عن الخمور حيث منعت -ليس فقط من شربها- بل ومن بيعها وحملها وعصرها والتصرف فيها بكل أنواع التصرف بل وجعلت اللعنة مقترنة بهذه الأفعال وهذا يدل على تأكد نجاستها وعدم الانتفاع بها بحال، ولو كانت هذه الخمر في إرث أيتام فإنه يجب إراقتها وعدم الانتفاع بها ولا يجوز تخليلها على الراجح من قولي أهل العلم في هذه المسألة، فهذا كله يؤيد مسألة نجاستها.
وعندنا أن الشارع أباح الانتفاع بجلد الميتة وهو نجس باتفاق بعد دبغه، لكنه لم يبح الانتفاع بالخمر مطلقا.
وعندنا أيضا أن رجلا جاء يهدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- راوية خمر -ولم يكن يعلم بالتحريم- فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أن الله تعالى حرم الخمر) فساره رجل كان جالسا بجواره (فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- بم ساررته؟) قال: أمرته أن يبيعها؛ فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (لا تشربها ولا تبعها ولا تنتفع به) فقام الرجل ففتح فم المزادة وأراقها والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ينظر، فهذا يدل على تمام عدم الانتفاع.
ثم إن الشريعة لما حرمت بيع الخمر كما في هذا الحديث هذه الأعيان التي حرم بيعها إنما تحرم لعلة من علتين: إما أنها لا ينتفع بها، وإما لنجاستها، والخمر ينتفع بها كما قال الله تعالى: ? يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ? [البقرة: 219]؛ إذن الخمر مما ينتفع به بوجه من وجوه الانتفاع، إذن لم تحرم لأن لا نفع فيها، فبقي أنها حرمت لأجل النجاسة.
ثم تأمل معنا ما أجمع الفقهاء على نجاسته كالبول:
البول مثلا: نجس باتفاق ومع هذه لم يأت فيه أنه رجس وإنما جاء القول بالرجسية عند الكلام على الخمر، وهذا يدل دلالة ظاهرة على نجاستها، والبول ونحوه لم تدل عليه نصوص قاطعة وإنما دلت عليه عمومات وظواهر أدلة أيدها الإجماع، فكيف وقد صرح في الخمر بأنها رجس؟ والرجس: في الحقيقة الشرعية يدل على النجس وبهذا جاء استعمال القرآن الكريم بالنص على نجاسة أشياء: ? قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ? [الأنعام: 145]؛ أي رجس أي نجس فهذا كله يجعلنا نقول بنجاسة الخمر نجاسة عينية.
قال ابن حجر -رحمه الله-: والتمسك بعموم الأمر باجتنابها كاف في القول بنجاستها.
وعلى هذا فإن الراجح من قولي أهل العلم في هذه المسألة التي كثر فيها الأخذ والرد والنقاش أن الخمر نجسة العين ولا يجوز أن يتضمخ الإنسان بنجاسة، ولا أن يضع النجاسة في ثوبه أو بدنه أو رقعته التي يصلي فيها، هذا هو الراجح وعليه الجماهير سلفا وخلفا،
والله تعالى أعلى وأعلم.
¥