ووجه استدلالهم من هذه الأحاديث: أن النبي e أمر عبد الله بن عمرو بأن يصوم ويفطر، وقال له: ((لا أفضل من ذلك)) متفق عليه، ودعاؤه أو إخباره على من صام الدهر، أنه لا صام من صام الأبد، والنفي الذي في حديث أبي قتادة المراد منه أنه لم يحصل أجر الصوم لمخالفته، ولم يفطر لأنه أمسك، كل ذلك يدل على الكراهة، ((قال ابن التين: استدل على كراهته من هذه القصة من أوجه نهيه e عن الزيادة، وأمره بأن يصوم ويفطر، وقوله: ((لا أفضل من ذلك))، ودعاؤه على من صام الأبد)) اهـ (فتح الباري) [4/ 222].
النوع الثاني: الموقوف على بعض الصحابة ومن تبعهم.
- واستدلوا أيضاً: بقول وعمل جمع من الصحابة والتابعين، منهم: عمر بن الخطاب، وعمرو بن ميمون، وعبد الله بن شداد، ومسروق وعبد الرحمن بن أبي ليلى؛ وهذه الآثار الثابتة عنهم:
1 - عن أبي عمرو سعد بن إياس الشيباني قال: ((بلغ عمر أن رجلاً يصوم الدهر، فعلاه بالدُّرة، وجعل يقول: كل يا دهر، كل يا دهر)) (صحيح) أخرجه ابن أبي شيبة في (المصنف) [2/رقم:9556]، وعبد الرزاق في (المصنف) [4/رقم: 7871] بلفظ: ((كنا عند عمر بن الخطاب فأتي بطعام له فاعتزل رجل من القوم، فقال: ما له؟ قالوا: إنه صائم، قال: وما صومه؟ قال: الدهر؛ قال: فجعل يقرع رأسه بقناة معه؛ ويقول: كل يا دهر، كل يا دهر)) عن ابن عيينة عن هارون بن سعد عنه به.
2 - وعن سفيان عن أبي إسحاق: ((أن ابن أبي نعيم كان يواصل من الأيام حتى لا يستطيع أن يقوم، فقال عمرو بن ميمون: لو أدرك هذا أصحاب محمد e رجموه)) (صحيح) أخرجه الطبري في (تفسيره) [2/ 178]، وفي (تهذيب الآثار) [1/ رقم: 497 من مسند عمر] من طريق شعبة عن أبي إسحاق قال: ((إن ابن أبي نعيم كان يصوم الدهر، أو قال: كان رجل يصوم الدهر، فقال عمرو بن ميمون: لو أدرك هذا أصحاب محمد e رجموه)).
3 - وعن عبد الله بن شداد قال: ((من صام الدهر فلا صام، ولا ترك، وسألت مسروقاً، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، فكرهوه كلهم)) (صحيح) أخرجه الطبري في (تهذيب الآثار) [1/ رقم: 496 من مسند عمر] من طريق أبي بكر بن أبي عياش عن أبي إسحاق عنه به.
قلت: أبو إسحاق هو الشيباني: سليمان بن أبي سليمان، وليس السبيعي.
4 - وقال ابن أبي شيبة في (المصنف) [2/رقم: 9557]، حدثنا وكيع عن سفيان عن الحسن بن عمرو قال: ((ذكر للشعبي أن عبيد المكتب يصوم الدهر كله فكره ذلك)) (صحيح).
5 - وقال ابن أبي شيبة في (المصنف) [2/رقم: 9557]، حدثنا يحيى بن يمان عن الحسن بن يزيد عن سعيد بن جبير: ((أنه سئل عن صوم الدهر؛ فكرهه)) (حسن إن شاء الله)، فيه يحيى بن يمان: صدوق يخطئ كثيراً، كما في التقريب.
6 - حدثنا أبو خليفة ثنا أبو الوليد الطيالسي ثنا شعبة قال يحيى بن عمرو بن سلمة أخبرني عن أبيه قال سئل بن مسعود عن صوم الدهر فكرهه وقال صوم ثلاثة أيام من كل شهر)) (صحيح) أخرجه الطبراني في (الكبير) [9/ 8983].
ثانياً: بعض المنقول عن أصحاب هذا القول:
1 - قال ابن قدامة: ((والذي يقوى عندي أن صوم الدهر مكروه، وإن لم يصم هذه الأيام، فإن صامها قد فعل محرماً، وإنما كره صوم الدهر لما فيه من المشقة، والضعف، وشبه التبتل المنهي عنه)) اهـ المغني [3/ 53].
2 - وقال ابن العربي من المالكية: ((قوله: ((لا صام من صام الأبد أن كان معناه الدعاء فيا ويح من أصابه دعاء النبي e وأن كان معناه الخبر فيا ويح من أخبر عنه النبي e أنه لم يصم وإذا لم يصم شرعا لم يكتب له الثواب لوجوب صدق قوله e لأنه نفى عنه الصوم وقد نفى عنه الفضل كما تقدم فكيف يطلب الفضل فيما نفاه النبي e )) اهـ (فتح الباري) [4/ 222].
3 - قال النووي: ((وقال أبو يوسف وغيره من أصحاب أبي حنيفة يكره مطلقاً)) اهـ (المجموع) [6/ 416].
4 - وقال الكاساني: ((وقال بعض الفقهاء: من صام سائر الأيام وأفطر يوم الفطر والأضحى وأيام التشريق لا يدخل تحت نهى صوم الوصال؛ وردَّ عليه أبو يوسف فقال: ليس هذا عندي كما قال؛ والله أعلم هذا قد صام الدهر، كأنه أشار إلى أن النهي عن صوم الدهر ليس لمكان صوم هذه الأيام؛ بل لما يضعفه عن الفرائض والواجبات، ويقعده عن الكسب، ويؤدي إلى التبتل المنهي عنه والله أعلم)). اهـ (بدائع الصنائع) [2/ 79]، وانظر (حاشية عابدين) [2/ 376].
¥