أحدها: النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى: { ... وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} {رَبَّنا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا .. } وفي الحديث قال الله تعالى قد فعلت: وقد جاء {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} {َ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ .. } { ... وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ .... } {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} { ... مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وفي الحديث: بعثت بالحنفية السمحة. وحديث: ما وخيّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين أحدهما أيسرُ من الآخر إلا اختار أيْسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه ".
وإنما قال: " ما لم يكن إثماً " لأن ترك الإثم لا مشقة فيه من حيث كان مجرد ترك. إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى. ولو كان قاصداً للمشقة لما كان مريدًا لليسر ولا التخفيف ولكن مريداً للحرج والعسر وذلك باطل.
والثاني: ما ثبت أيضاً من مشروعية الرخص، وهو أمر مقطوع به، ومما علم من دين الأمة ضرورة؛ كرخص القصر، والفطر، والجمع، وتناول المحرمات في الاضطرار، فإن هذا نمط يدل قطعاً على مطلق رفع الحرج والمشقّة، وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال.
ولو كان الشرع قاصداً للمشقة في التكليف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف.
وقال الشاطبي أيضاً: فالنصوص سالفة الذكر عامة في المشقّة بنوعيها الشديد والمتوسط، وإذا فرضنا أن رفع الحرج مفقود فيه صيغة عموم فإنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع الحرج، كما إذا وجدنا التيمم شرع عند مشقة طلب الماء، والصلاة قاعداً عند مشقة طلب القيام، والقصر والفطر في السفر، والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر، والنقط بكلمة الكفر عن مشقة القتل.
وأطال النفس قائلاً: إلى جزئيات كثيرة جداً يحصل من مجموعها قصد لرفع الحرج فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها عملاً بالاستقراء.
وعلى هذه الشاكلة القول بالأخف.
يقول الزركشي إن القول بالأخف: قد يكون بين المذاهب، وقد يكون بين الاحتمالات المتعارضة أمارتها،وقد صار إليه بعضهم لقوله تعالى ( ... يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقوله { .. وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ .. } وقوله صلى الله عليه وسلم بعثت بالحنيفية السمحة "
وهذا يخالف الأخذ بالأقل فإن هناك يشترط الاتفاق على الأقل ولا يشترط ذلك هاهنا وحاصله يرجع إلى أن الأصل في المضار المنع، إذ الأخف خنهما هو ذلك.
وقيل: يجب الأخذ بالأشق كما قيل هناك يجب الأخذ بالأكثر.
قال الطوفي -- الترجيح عند تعارض الدليلين:
الثاني: يأخذ بأشد القولين: لأن " الحق ثقيل مري وبالطل خفيف وبي " كما يروى في الأثر وفي الحكمة: إذا ترددت بين أمرين فاجتنب أقربهما من هواك.
وروى الترمذي من حديث عائشة قالت: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما خيّر عمار بين أمرين إلا اختار أشدهما". وفي لفظ: " أرشدهما".
قال الترمذي هذا حديث حسن غريب، ورواه أيضاً النسائي وابن ماجة. فثبت بهذين اللفظين للحديث أن الرشد في الأخذ بالأشد.
الثالث: يأخذ بأخف القولين لعموم النصوص الدالة على التخفيف في الشريعة كقوله عز وجل: ( ... يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وقوله: { .. وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا ضرر ولا ضرار ". وقوله صلى الله عليه وسلم: " بعثت بالحنيفية السمحة السهلة ".
قال شيخنا المزني: من قواعد الشريعة أن يستدل بخفة أحد الأمرين المتعارضين على أن الصواب فيه أو كما قال.
قلت: وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيْسَرهما ما لم يكن إثماً ".
¥