قلت والفرق بينه وبين عمار فيما حكينا عنه من الأخذ بأشد الأمور: أن عماراً كان مكلفاً محتاطاً لنفسه ودينه والنبي صلى الله عليه وسلم كان مشرعاً موسعاً على الناس لئلا يحرج أمته. وقال: يسِّروا ولا تعسِّروا ".
وقال لبعض أصحابه في سياق الإنكار عليه إن فيكم منفرين.
قلت: وقد روي حديث عمار " أسدهما " بالسين المهملة من السداد وعليه فلا دليل فيه للشدة.
وبناء على هذا المقصد رجح العلماء في قضايا الخلاف التيسير على مر الزمان إذا ظهر أن القول الراجع يؤدي إلى إعنات ومشقة وعدلوا عن القياس وخصصوا عموم النصوص فالقاعدة أن غلبة المشقة مسقطة للأمر قال عليه الصلاة والسلام: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك "
المطلب الثاني: توظيف اختلاف العلماء لرفع الحرج والمشقة عن الأمة وذلك معنى كون الاختلاف رحمة.
فقد فسر الشاطبي رحمة الخلاف بقوله: إن جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة في الفروع ضرباً من ضروب الرحمة، وإذا كان من جملة الرحمة، فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجاً من قسم أهل الرحمة.
وبيان كون الاختلاف المذكور رحمة ما روى عن القاسم بن محمد قال: لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمل، لا يعمل العامل بعلم رجل منهم إلا رأى أنه في سمعة.
وعن ضمرة بن رجاء قال: اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد فجعلا يتذاكران الحديث، قال: فجعل عمر يجيء بالشيء يخالف فيه القاسم، قال: وجعل القاسم يشق ذلك عليه حتى بين فيه، فقال له عمر: لا تفعل فيما يسرني باختلافهم حمر النعم.
وروى ابن وهب عن القاسم أيضاً، قال: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز؛ ما أحب أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يختلفون: لأنه لو كان قولاً واحداً لكان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سنة.
ومعنى هذا أنهم فتحوا للناس أبواب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه، لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق؛ لأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة – كما تقدم- فيصير أهل الاجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونهم مكلفين باتباع خلافهم، هو نوع من تكليف ما لا يطاع، وذلك من أعظم الضيق. فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي.
فيهم، فكان فتح باب للأمة للدخول في هذه الرحمة، فكيف لا يدخلون في قسم من رحم ربك فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها والحمد لله.
قال ابن عابدين في تعليقه على قول صاحب الدّر المختار: "وعلم بأن الاختلاف من آثار الرحمة فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر".
وهذا يشير إلى الحديث المشهور على ألسنة النسا وهو اختلاف أمتي رحمة قال في المقاصد الحسنة: رواه البيهقي بسند منقطع عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة علي، فإن لم تكن في سنة مني فما قال أصحابيـ إ، أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة. وأورده ابن الحاجب في المختصر بلفظ أمتي رحمة للناس.
مقال ملا عليّ القاري: إن السيوطي قال: أخرجه نصر المقدسيّ في الحجة والبيهقي في الرسالة الأشعرية بغير سنند ورواه الحليمي والقاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهم ولعله خرّج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا.
ونقل السيوطي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول ما سرني أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة وأخرج الخطيب أن هارون الرشيد قال لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله نكتب هذه الكتب- يعني مؤلفات الإمام مالك- ونفرقها في آفاق الإسلام لتحمل عليها الأمة. قال: يا أمير المؤمنين إن اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمة كل يتبع ما صح عنده وكلهم على هدى وكل يريد الله تعالى، وتممه في كشف الخفاء ومزيل الإلباس.
وللاختلاف أسبابه المشروعة في الفقه ولهذا اعتبر العلماء معرفة الاختلاف ضرورية للفقيه حتى يتسع صدره ونفسح أفقه.
فقد قال قتادة: منن لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه للفقه.
وعن هشام بن عبيد الله الرازي: من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه.
¥