وعن عطاء: لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالماً باختلاف الناس.
وقال يحي بن سلام: لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول: هذا أحب إليّ.
إلى غير ذلك من الأقوال يراجع الشاطبي في الموافقات، فقد عد معرفة الاختلاف من المزايا التي على المجتهد أن يتصف بها.
إذا تقرر ما تقدم من جواز الاختلاف بين أهل الحق فاعلم أن هذا الاختلاف قد يكون سبباً للتيسير والتسهيل والتيسير مقصد من مقاصد الشريعة بنص الكتاب والسنة كما مر عن الشاطبي وغيره.
وبناء عليه يوجد في المذاهب كلها العدول عن القول الراجح إلى قول مرجوح لجل مصلحة ترجحت أو درء مفسدة أو دفع مشقة عرضت.
ولهذا تقرر عند الملكية تقديم القول الضعيف الذي جرى به العمل على القول الراجح في زمن من الأزمنة وكان من الأمكنة لتبدل عرف أو عروض جلب مصلحة أو درء مفسدة فيرتبط العمل بالموجب وجوداً أو عدماً كما يقول شارح التحفة.
وبنوا على ذلك مئات المسائل وقال ابن عبادين كذلك بجواز الإفتاء بالضعيف للضرورة وذكر أبياتاً في ذلك:
ولا يجوز بالضعيف العمل ولا به يجاب من جا يسأل
إلا لعالم له ضرورة أو من له معرفة مشهورة
ومعنى ذلك من مقصد التيسير يرجح القول الضعيف فيتعين العمل له لعروض الشقة، فمعادلة المقصد الكلي بالنص الجزئي مؤثرة في الفتوى على مدار الأزمنة.
يقول ابن القيم في تغيير الأحكام بتغيير الأزمة والأمكنة والأحوال: هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعز المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم.
وتغيّر الزمان المشار إليه هو تغير أحوال الناس، فالحجيج الذين كانوا يُعدون بالآلاف أصحبوا يعدون بالملايين. والأنفس القليلة التي كانت تموت في موسم الحج أصحبوا تعد بالمئات ومحل الشاهد منه أن الإبقاء على الأحكام الجزئيات التي تخالف مقاصد الشريعة وتؤدي إلى مشقة وإعنات مخالف لروح الشريعة وغلط. وأي مشقة من ذهاب الأنفس في الزحام والإثخان بالجروح والآلام ألا يستحق الأمر اجتهاداً؟
قال ابن عابدين في نفس المعني:
فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغيّر عرف أهله، أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن الأحكام؛ ولهذا ترى مشايخ المذاهب خالفوا ما نصّ عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمانهم لقال بما قالوا به أخذاً من قواعد مذهبه.
وقال أيضاً: ثم اعلم أن كثيراً من الأحكام التي نص عليها المجتهد صاحب المذهب بناء على ما كان في عرفه وزمانه قد تغيرت بتغير الأزمان بسبب فساد أهل الزمان أو عموم الضرورة كما قدمناه.
وكتبه عبد الله بن بيه
جدة 13/ 02/1427
ـ[عبد الرشيد الهلالي]ــــــــ[14 - 03 - 08, 11:39 م]ـ
الحمد لله وبعد:فهذه قاعدة مختلف في العمل بها بإطلاق،وإنما تقيد بنظرين اثنين:
1/إنما يكون الخلاف معتبرا إذا كان مدركه الشرعي مما يصح أن يعارض بمثله، وذلك بأن يكون قوي الثبوت، محتمل الدلالة، أويكون دون ذلك ولكنه في باب الاحتياط.
2/في طريقة الأخذ بأحد القولين المختلفين،فالواجب دينا أن يبذل الوسع في معرفة ارجحهما من حيث الدليل فيعمل بمقتضى ما يؤديه اليه اجتهاده إن كان من أهل الاجتهاد، فإن كان عاميا فلايحل له الأخذ بالتشهي بل يأخذ بقول أعلمهما وأصلحهما. ولا يجوز للمفتي أن يخبر المستفتي بالخلاف ثم يخيرها في الأخذ بأي الرأيين شاء فإن ذلك من باب القول في دين الله بالتشهي والهوى.
وللإمام الشاطبي كلام عجيب في مسألة المترخصين في اختيار القول المناسب لهم من أقوال الأئمة الختلفين، فيقول ــ رحمه الله ــ (ومن هذا أيضا جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع فى الأقوال وعدم التحجير على رأي واحد ويحتج فى ذلك بما روى عن القاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما مما تقدم ذكره ويقول إن الاختلاف رحمة وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر والذي عليه أكثر المسلمين ويقول له لقد حجرت واسعا وملت بالناس إلى الحرج وما فى الدين من حرج وما أشبه ذلك وهذا القول خطأ كله وجهل بما وضعت له الشريعة والتوفيق بيد الله) ولاتكاد تجد مسألة من مسائل الفروع ـ غير المجمع عليها ـ الا وقد خالف فيها بعض الناس مستندا على دليل، أو معتضد بتأويل، فالأخذ بهذه القاعدة على اطلاقها،مفض الى انحلال عقدة الشرع وذهاب رسمه، حيث يصبح الحلال حرامافي وقت، والحرام حلال في وقت آخر وذلك عبث تتنزه عنه شريعة أفضل المرسلين.
¥