المستفاد من الصيغ"35، وذلك هو الغرض الذي يستهدفه الأصوليون من تشكيل تلك العمومات المعنوية، إذ بواسطتها يستطيعون أن يغطوا كثيرا من النوازل التي لا توجد لها نظائر في الخطاب تقاس عليها ...
بل إن هذه العمومات المعنوية أو المقاصد التي استنبطت من أدلة عديدة، تصبح هي بدورها طريقا إلى أصول أخرى تابعة ومكملة لها، وذلك "كالنكاح فإنه مشروع للنسل على القصد الأول، ويليه طلب السكن والازدواج والتعاون على المصالح الدنيوية والأخروية، فجميع هذا مقصود للشارع من شرع النكاح"36.
ثم لما كانت هذه المقاصد التبعية خادمة ووسيلة للمقصد الأصلي، إذ هي بالنسبة للنكاح "مثبت للقصد الأصلي، ومقو لحكمته، ومستدع لطلبه وإدامته، ومتسجلب لتوالي التراحم والتواصل والتعاطف الذي يحصل به مقصد الشارع من التناسل"37. استدل بها الأصوليون المالكيون على أن "كل ما لم ينص عليه مما شأنه ذلك، مقصود للشارع أيضا" مثل استدلالهم على أن نواقض هذه الأمور مضاد لمقاصد الشرع بإطلاق، وذلك كنكاح المطلقة ثلاثا بقصد التحليل، ونكاح المتعة، لأنه نكاح لا يقصد به التواصل والبقاء، لأن القصد إليها مخالف لمقصد الشارع عينا، فلا يصح التسبب بإطلاق"38.
ب. وأما القراءة من جهة المخاطب أو الواقع فإن النظر فيه بقصد الحكم على النازلة بالدخول تحت العموم المعنوي المستنبط بالاستقراء أو بعدم الدخول تحته، يتشخص بسوق هذا المثال الذي يستعرض فيه ابن رشد وجهة نظر الذين يقولون بالمصالح المرسلة والذين لا يقولون بها، ثم وجهة نظره هو، يقول في جواز نكاح المريض مرض الموت أو عدم جوازه: "جواز النكاح بإدخال وارث قياس مصلحي، لا يجوز عند أكثر الفقهاء، وكونه يوجب مصالح لم يعتبرها الشرع إلا في جنس بعيد من الجنس الذي يرام فيه إثبات الحكم بالمصلحة، حتى إن قوما رأوا أن القول بهذا القول شرع زائد، وإعمال هذا القياس يوهن ما في الشرع من التوقيف، وأنه لا يجوز الزيادة فيه، كما لا يجوز النقصان".
ثم يقول من جهة أخرى "والتوقف أيضا عن اعتبار المصالح إذا حصل تطرق للناس أن يتسرعوا -لعدم السنن التي في ذلك الجنس- إلى الظلم".
والحل في نظره أن "تفوض أمثال هذه المصالح إلى العلماء بحكمة الشرائع الفضلاء الذين لا يتهمون بالحكم بها، وبخاصة إذا فهم من أهل ذلك الزمان، أن في الاشتغال بظواهر الشرائع تطرقا إلى الظلم".
ثم يدل على كيفية النظر بقوله: "ووجه عمل الفاضل في ذلك أن ينظر إلى شواهد الحال فإن دلت الدلائل على أنه قصد بالنكاح خيرا لا يمنع النكاح، وإن دلت على أنه قصد الإضرار بورثته منع من ذلك، كما في أشياء كثيرة من الصنائع، يعرض فيها للصناع الشيء وضده مما اكتسبوا من قوة مهنتهم، إذ لا يمكن أن يحد في ذلك حد مؤقت صناعي، وهذا كثيرا ما يعرض في صناعة الطب وغيرها من الصنائع المختلفة"39.
خاتمة
وبعد، إذا كان أهم ما يميز شريعة الإسلام هو أن "مبناها وأساسها على الحكم، ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل" فإن الذي يمكن قوله في خاتمة هذا البحث هو: أن ليس هناك مذهب استطاع أن يكشف عن الحكم والمصالح في الشريعة الإسلامية ويبين المنهج الملائم لمواجهة الحاجات ومطالب الحياة الإنسانية بقصد إشباعها كالمذهب المالكي:
فهو الذي تجاوز في قراءته للخطاب الشرعي القراءة التجزيئية التي كانت قاصرة على ما يؤخذ من الخطاب بطريق اللفظ، أو بطريق التعليل إلى ما يؤخذ من الخطاب ككل عن طريق المقاصد التي يتغياها الخطاب، وهو الذي وضع نصب عينيه مصالح الناس بجميع أبعادها في قراءته واقع الناس، لا يشترط فيها إلا شرطا واحدا هو أن تكون ملائمة لمقاصد الشريعة الإسلامية، ومن جنس أمهات المقاصد الكبرى تندرج إما تحت الضروريات أو الحاجيات أو الكماليات ...
الهوامش
1. تاريخ المذاهب الإسلامية، أبو زهرة، ص: 225.
2. نفسه، ص: 373.
3. نفسه، ص: 374.
4. نفسه، ص: 375.
5. نفسه، ص: 376.
6. نفسه، ص: 376.
7. الأحكام لابن حزم، 4/ 196.
8. انظر المنهج الأصولي في فقه الخطاب، د. إدريس حمادي، ص: 11 وما بعدها.
9. مالك -أبو زهرة، ص: 451.
¥