تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثم يذكر أن الضروريات تأصلت في خمس هي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ المال، وحفظ العقل. وأن حفظ الدين حاصله في ثلاثة معان هي: الإسلام، والإيمان، والإحسان، وكذلك حفظ النفس حاصلة في ثلاثة معان ... ثم يذكر في كتاب المقاصد أن المقاصد التي ينظر فيها قسمان: أحدهما يرجع إلى قصد الشارع، والآخر يرجع إلى قصد المكلف"30. أو بعبارة أخرى قصد المجتمع وقصد الفرد، ويذكر في باب الاجتهاد أن الاجتهاد على ضربين أحدهما لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وهو المتعلق بتحقيق المناط وتنزيل الشريعة على أفعال المكلفين، والثاني الذي يمكن أن ينقطع وهو الاجتهاد في النص31. وكل ذلك يفيد أن الأصول في خطوطها العريضة محصورة متناهية.

نعم إذا تجاوزنا البعد العام في هذه الأصول نجد للإمام الشاطبي رأيا غير هذا حاصله أن "كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائما لتصرفات الشرع ومأخوذا معناه من أدلته فهو صحيح يبنى عليه ويرجع إليه. إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعا به ... ويدخل تحت هذا ضرب الاستدلال المرسل الذي اعتمده مالك، والشافعي فإنه وإن لم يشهد للفرع جمع المصحف وكتابته، وترتيب الدواوين، وتدوين العلوم الشرعية واللغوية، أصل معين قد شهد له أصل كلي حفظ الدين، وكذلك الاستحسان على رأي مالك يبنى على هذا الأصل ... وأصل الإجماع"32. ومن يقرأ في كتاب الموافقات للإمام الشاطبي يجد الكثير والكثير من هذه الأصول التي ولدها عن طريق استقراء الجزئيات.

كذلك نجد المذهب المالكي على مستوى المقاصد الجزئية يفتح المجال واسعا. فلقد لاحظنا من قبل كيف أن الإمام مالكا وأصحابه قد جعلوا من الفرع أصلا يقاس عليه عندما تثبت فيه العلة. والأمر كذلك بالنسبة للفرع الثاني والثالث والرابع إلى ما لا نهاية ... وبذلك تتكاثر الأصول التي يقاس عليها، وتحصل التراكمات المعرفية التي إن نظرت إلى أصولها البعيدة عن الأصل الأول المنصوص عليه أمكن أن يقال لا علاقة لها بالشريعة الإسلامية33 لكن إن نظرت إلى هذه التراكمات في "ترتيب ونظام، الأقرب على الأقرب" وجدت دائما خيط الهداية حاصلا ومتصلا. ولعل هذا هو السر الذي يميز الشعوب المتقدمة من المتخلفة، فالمتقدمة لها الكثير من الأصول والمسلمات، والمتخلفة لها أصول محدودة معدودة تعض عليها بالنواجذ دائما.

وهكذا يكون من الممكن دائما أن نكتشف كثيرا من القوانين بقراءتنا الواعية في الخطاب، وفي التراكمات المعرفية التي ستصبح على مر الأزمان قوانين معبرة إما عن مصالح تجلب ويجلب أمثالها، أو مفاسد تدرأ ويدرأ أمثالها، إذ القراءة في الخطاب الشرعي وفي التراكمات المعرفية المتولدة من أصول فيه، كالقراءة في الكون؛ فكما أن الاجتهاد في الكون غير متناه كذلك هو الاجتهاد في الخطاب الشرعي وما يلحق به غير متناه.

القراءة ومنهجها

وأعتقد أن المذهب المالكي قد رسم المنهج المتبع في هذه القراءة. وحاصله أن الشريعة إذا كانت خطابا لمخاطب:

أ. فإن القراءة من جهة الخطاب تتم بالنظر فيه بطريق الاستقراء، بقصد تكوين عمومات معنوية كتلك العمومات التي شخصوها من جزئيات عديدة، مثل: حفظ النفس، والعقل، ودفع الحرج والمشقة عن المكلفين، إذ رأوا أن مثل هذه الأصول وإن كان لا يشهد لها دليل معين، فهي للأدلة العديدة التي تشهد لها بطريق غير مباشر تجعلها ترتقي إلى رتبة الأصول، وتمتاز عن الفروع باليقين الحاصل منها للمتتبع: "لأنه بهذا امتازت الأصول من الفروع، إذ كانت الفروع مستندة إلى آحاد الأدلة وإلى مآخذ معينة، فبقيت على أصلها من الاستناد إلى الظن، بخلاف الأصول فإنها مأخوذة من استقراء مقتضيات الأدلة بإطلاق، لا من آحادها على الخصوص"34، ومن ثم كانت دلالة هذه القوانين الكلية على الأحكام كدلالة الأصول الكلية التي نص عليها الخطاب، لا فرق بينها وبين قوله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" [سورة الاَنعام/الآية: 166]. وقوله سبحانه: "وما جعل عليكم في الدين من حرج" [سورة الحج/ الآية: 76]، إذ صار ما استقرئ من عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامة، لأن "العموم إذا ثبت فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغ العموم فقط، بل له طريقان: أحدهما الصيغ إذا وردت ... والثاني استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام، فيجري في الحكم مجرى العموم

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير