وتجدر الإشارة أنّ الإمام ابن الهمّام عرّف التقليد: " بأنّه العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجّة منهما " [12]. واختار الإمام الشوكاني هذا التعريف وقال عنه: " هذا الحدّ أحسن من الذي قبله " [13].
المطلب الثاني: الفرق بين التقليد والإتّباع.
يرى بعض العلماء أن لا فرق بين التقليد والإتّباع, ولهذا فإنّهم يُقسّمون الناس بالنسبة لأخذ الأحكام الشرعيّة إلى قسمين: إمّا مجتهد يستطيع استنباط الأحكام الشرعيّة من أدلّتها , وإمّا مقلّد ليس له قدرة على استنباط الأحكام , بل يأخذ قول المجتهد دون حجّة.
في حين يرى جمهور العلماء والأصوليين أنّ هناك فرق بين الإتّباع والتقليد , فقالوا أنّ التقليد هو عمل بقول الغير بلا حجّة , أمّّّّا الإتّباع فهو الائتمار بما أمر الله تعالى به ورسوله , صلّى الله عليه وسلّم , وترسّم أفعاله وأحواله , صلّى الله عليه وسلّم , للإقتداء به [14]. أو هو أخذ من الدليل لا من المجتهد؛ لأنّ معرفة الدليل يتطلّب نوع اجتهاد إذ يتوقّف على معرفة سلامة الدليل من المعارض , لذلك إذا تابع الرجل الأئمّّّّّة فيما تابعوا فيه رسول الله , صلّى الله عليه وسلّم , وانقاد الدليل , فهذا يُعدّ متابعا لا مقلّدا , فأخذه بأقوالهم لدلالة الأدلّّّّة عليها إتّباعا في الحقيقة للأدلّة لا لأقوالهم [15].
قال الإمام ابن عبد البرّ مبيّنا الفرق بين التقليد والإتّباع: " قال – أي أبو عبد الله بن خويز منداد البصريّ المالكيّ – كلّ من اتّبعت قوله من غير أن يجب عليك قبوله لدليل يوجب ذلك , فأنت مقلّده , وكل من أوجب عليك الدليل إتّباع قوله فأنت متّبعه " [16].
وقال الإمام ابن القيّم: " وقد فرّق أحمد بن حنبل بين التقليد والإتّباع , فقال أبو داود: سمعته يقول: الإتّباع أن تتّبع الرجل ما جاء عن النبي , صلّى الله عليه وسلّم , وعن أصحابه , ثمّ هو من بعد في التابعين مخيّر " [17] , فاعتبر أنّ الإتّباع هو ما ثبت بحجّة , والمتّبع هو الذي يتّبع الدليل الشرعي؛ لأنّ الأخذ بالحجّة هو الأصل [18]. من هنا ووفق التفريق السابق للتقليد والإتّباع فإنّ الناس يُقسمون إلى ثلاثة أقسام , إمّا مجتهد , أو مقلّد , أو متّبع , والمقلّد ليس عنده قدرة على البحث والنظر , أمّا المتّبع , فإن لم يكن عنده القدرة على الاستقلال في البحث وفهم الأدلّة واستنباط الأحكام منها كالمجتهد , إلا أنّه يستطيع في الوقت نفسه فهم الحجّة وعرفة الدليل [19].
قال الإمام الشاطبيّ: المكلّف بأحكامها – أي أحكام الشريعة – لا يخلوا من أحد أمور ثلاثة:
أحدها: أن يكون مجتهدا فيها فحكمه ما أدّأه إليه اجتهاده فيها.
الثاني: أن يكون مقلّدا صرفا خليّا من العلم الحاكم جملة , فلا بد له من قائد يقوده وحاكم يحكم عليه , وعالم يقتدي به.
الثالث: أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين , لكنّه يفهم الدليل وموقعه , ويصلح فهمه للترجيح بالمرجّحات المعتبرة فيه تحقيق المناط ونحوه [20].
نستنتج ممّا سبق أنّ بين التقليد والمتابعة عموم وخصوص , فالتقليد مطلق المتابعة , أمّا الإتّباع فهو المتابعة فيما قام الدليل عليه [21] , ونتيجة لهذا التفريق بينهما اختلف العلماء في جواز أو عدم جواز التقليد , في حين اتّفقت كلمتهم على أنّ المتابعة جائزة , قال ابن عبد البر نقلا عن الإمام أبي عبد الله بن خواز منداد البصريّ: " والإتّباع في الدين مسوغ " [22].
المبحث الثاني: أقسام التقليد.
يُقسّم العلماء التقليد إلى قسمين وهما:
القسم الأوّل: التقليد المذموم , أو المحرّم , وهو يُقسم إلى عدّة أنواع:
النوع الأوّل: الإعراض عمّا أنزل الله تعالى , وعدم الإلتفات إليه اكتفاء بتقليد الأباء [23].
النوع الثاني: تقليد من لا يعلم المقلّد انّه أهل لأن يُؤخذ بقوله [24].
¥