النوع الثالث: التقليد بعد ظهور الحجّة , وظهور الدليل على خلاف قول المقلّد [25] , ويكون دليل إمامه ضعيفا [26] , يقول الإمام العز بن عبد السلام: " ومن العجب العجيب أنّ الفقهاء المقلّدين , يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعا , ومع هذا يقلّده فيه , ويترك من الكتاب والسنّة والأقيسة الصحيحة لمذهبه جمودا على تقليد إمامه , بل يتحايل لدفع ظواهر الكتاب والسنّة ويتأوّلهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن مقلّده " إلى أن قال: " فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتّى حمله على مثل ما ذكر , وفّقنا الله لإتّباع الحقّ أين ما كان وعلى لسان من ظهره " [27].
ويُفرّق الإمام ابن القيّم بين هذا النوع والنوع الأوّل: " أنّ الأول قلّد قبل تمكّنه من العلم والحجّة , وهذ قلّد بعد ظهور الحجّة له , فهو أولى بالذم ومعصية الله ورسوله " [28].
النوع الرابع: تقليد المجتهد الذي ظهر له الحكم باجتهاده مجتهدا آخر يرى خلاف ما ظهر
له [29] , فهذا ليس من التقليد الجائز بلا خلاف؛ لأنّ العلماء أجمعوا على أنّ المجتهد إذا ظهر له الحكم باجتهاده لا يجوز له أن يُقلّد غيره المخالف له [30].أأأأأأىلااا
يقول الإمام الآمديّ في الإحكام في أصول الأحكام: " المكلّف إذا كان قد حصلت له أهليّة الاجتهاد بتمامها في مسألة من المسائل , فإن اجتهد فيها , وأدّاه اجتهاده إلى حكم فيها , فقد اتّفق الكل على أنّه لا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين , في خلاف ما أوجبه ظنّه وترك ظنّه " [31].
النوع الخامس: تقليد رجل واحد معيّن دون غيره من جميع العلماء , أو مذهب معيّن دون غيره يوافقه على كلّ ما يقول وإن خالف الأدلّة الشرعيّة الصريحة الصحيحة [32] , يقول الإمام الشنقيطي: هذا النوع من التقليد " لم يرد به نصّ من كتاب ولا سنة , ولم يقل به أحد من أصحاب رسول الله , صلّى الله عليه وسلّم , ولا أحد من القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير , وهو مخالف لأقوال الأئمّة الأربعة رحمهم الله , فلم يقل أحد منهم بالجمود على رجل واحد معيّن دون غيره من جميع المسلمين " [33].
النوع السادس: تتبّع الرخص والتسهيلات في المذاهب وفتاوى المجتهدين , وذلك كأن يجمع المقلّد في قضايا ما هو أسهل عليه من المذاهب , أو يقع المقلّد في قضية فيها حكم شرعيّ , فلا يُقلّد من يترجّّّح تقليده من جهة ولايته , أو قوّة دليله , أو تقواه , ولكنّه يختار من المفتين في قضاياه من تكون فتواه في القضيّة المعيّنة سهلة على المقلّد جارية على هواه [34].
يقول الإمام ابن تيميّة: " إذا جُوّز للعاميّ أن يُقلّد من يشاء , فالذي يدلّ عليه أصحابنا وغيرهم أنّه لا يجوز له تتبّع الرخص مطلقا " [35].
ويقول الإمام الشاطبيّ: " ليس للمقلّد أن يتخيّر في الخلاف؛ فإنّ ذلك يفضي إلى تتبّع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي " [36].
وهذا القسم من التقليد قد وردت الآيات والآثار في ذمّه , فمن هذه الآيات قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة:170]. وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: 34] , وقال: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].
يقول ابن القيّم بعد أن ساق هذه الآيات مستدلا على فساد هذا القسم من التقليد: " هذا في القرآن كثير يذمّ فيه من أعرض عمّا أنزله وقنع بتقليد الآباء " [37].
ومن الأحاديث التي تُبيّن حرمة هذا القسم من التقليد ما رواه الإمام المزنيّ عن جدّه قال سمعت رسول الله , صلّى الله عليه وسلّم , يقول: " إنّي لأخاف على أمّتي من بعدي أعمال ثلاثة , قال وما هي يا رسول الله؟
قال: أخاف عليهم من زلّة العالم , ومن حكم جائر , ومن هوى متّبع " [38].
¥