الدليل الرابع: الحديث المروي عن الصحابيّ عدي بن حاتم , رضي الله عنه , قال: أتيت النبيّ , صلّى الله عليه وسلّم وفي عنقي صليب من ذهب , فقال لي: " يا ابن حاتم الق هذا الوثن من عنقك ". فألقيته. ثمّ افتتح سورة براءة فقرأ حتّى بلغ قوله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} [التوبة: 31]. فقلت: يا رسول الله , ما كنّا نعبدهم. فقال النبيّ , صلّى الله عليه وسلّم: " كانوا يُحلّون لكم الحرام فتستحلّونه , ويُحرمون عليكم الحلال فتحرّمونه ". قلت: بلى. قال: " فتلك عبادتكم " [87].
قال الإمام ابن حزم: " فسمّى النبيّ , صلّى الله عليه وسلّم , إتّباع من دون النبيّ , صلّى الله عليه وسلّم , في التحليل والتحريم عبادة , وكلّ من قلّد مفتيا يُخطئ ويصيب , فلا بدّ له ضرورة أن يستحلّ حراما ويُحرّم حلالا , وبرهان ذلك تحريم بعضهم ما يحلّه سائرهم , ولا بد أنّ أحدهم يُخطئ , أفليس من العجب إضراب المرء عن الطريق التي أمره خالقه بسلوكها , وضمن له بيان نهج الصواب فيها " [88].
الدليل الخامس: قالوا لقد ورد العديد من الآثار من أهل العلم والتي ذمّوا فيها التقليد ومن هذه الآثار: قال ابن عبّاس , رضي الله عنه: " ويل للأتباع من غمرات العلم , فإنّه يقول من قبل رأيه ثمّ يبلغه عن النبيّ , صلّى الله عليه وسلّم , فيأخذ به وتمضي الأتباع بما سمعت "
ومنها ما ورد عن معاد , رضي الله عنه: " أمّا العالم فإن اهتدى فلا تقلّدوه دينكم , وإن افتتن فلا تقطعوا منه رجاءكم؛ فإنّ المؤمن يفتتن ثمّ يتوب ".
قال سليمان الفارسيّ , رضي الله عنه: " فإمّا زلّة العالم فإن اهتدى فلا تقلّدوه دينكم ".
وقال ابن مسعود , رضي الله عنه: " ألا لا يقلّدنّ أحدكم دينه رجلا , إن آمن آمن , وإن كفر كفر , فإنّه لا إسوة في الشر ".
وقال الإمام ابن عبد الله بن المعتز: " لا فرق بين بهيمة تُقاد ,إنسلن يُقلّد " [89]
وقال الإمام أحمد: " لا تقلّدني , ولا تقلّد مالكا , ولا الشافعيّ , ولا الأوزاعيّ , ولا الثوريّ , وخذ من حيث أخذوا " [90].
يقول الدكتور عمر سليمان الأشقر: " بعد أن سقنا هذه النصوص عن الأئمّة نتسائل فنقول: هل الذين يزعمون أنّهم مقلّدون على مذهب الأئمّة يتّبعون الأئمّة أم هم مخالفون لهم؟ والجواب واضح: فاللذي يتّبع شخصا يسمع له ويطيع , وهؤلاء لو كانوا متابعين للأئمّة لأخذوا بما أمروهم به من تقديم قول الرسول , صلّى الله عليه وسلّم , على أقوالهم " [91].
الدليل السادس: قالوا إنّ العامّي لو كان مأمورا بالتقليد , فلا يؤمن أن يكون من قلّده مخطئا في اجتهاده , أو كاذبا فيما أخبره به , فيكون العامّي مأمورا بإتباع الخطأ والكذب , وهذا على الشارع ممتنع [92].
الدليل السابع: قالوا: إنّ الفروع والأصول مشتركة في التكليف بها , فلو جاز التقليد في الفروع لمن ظهر صدقه فيما اخبر به , لجاز ذلك في الأصول [93].
المطلب الثالث: موقف ابن حزم من التقليد.
يُعتبر الإمام ابن حزم , رحمه الله , من العلماء القائلين بمنع التقليد , بل المحرّمين له , وقد صرّح برأيه هذا في العديد من كتبه [94] , حيث اعتبره قول محدث في الدين , ولذلك ردّ بشدّة على القائلين بالتقليد من العلماء , وناقش أدلّتهم وأقام الأدلّة والشواهد التي تؤكّد رأيه , إذ يقول في المحلّى بالآثار: " ولا يحلّ لأحد أن يُقلّد أحدا , لا حيّا ولا ميّتا , وعلى كل أحد من الاجتهاد حسب طاقته " [95].
وقال في كتاب النبذة الكافية: " والتقليد حرام , ولا يحلّ لأحد أن يأخذ بقول أحد بلا برهان " [96].
وهو يرى أنّ التقليد كلّّه حرام سواء كان في العقيدة وأصول الدين أو كان في العبادات ومسائل الفقه , إذ يقول: " فالتقليد كلّه حُرّم في جميع الشرائع؛ أوّلها عن آخرها , من التوحيد والنبوّة والقدر والإيمان والوعيد والإمامة والمفاضلة وجميع العبادات والأحكام " [97]. ثمّ إنّ الإمام ابن حزم يعتبر التقليد بدعة محدثة في الدين حدثت في القرن الرابع للهجرة [98] , إذ يقول: " وليعلم من قرأ كتابنا أنّ هذه البدعة العظيمة – نعني التقليد – إنّها حدثت في الناس وابتدئ بها بعد الأربعين ومائة من تاريخ الهجرة , وبعد أزيد من مائة عام وثلاثين عام بعد وفاة رسول الله ,
¥