بغير ذلك لتبرّأ منه وهرب عنه " [104].
فابن حزم , رحمه الله , يجعل العامّي مراتب , فالعوام عنده ليس في مرتبة واحدة , أدناها أن يكتفي بأن يُصرّح مفتيه بأنّ ذلك حكم الله تعالى , ثمّ إذا علا في تفكيره قليلا , سأل عن نصّ الحديث , فإن زاد عن ذلك سأل عن السند , فإن زاد عن ذلك سأله عن طبقة الأسانيد , فإن زاد سأل عن أقوال العلماء. وأقلّ المراتب وهم الأكثرون يكتفون من المفتي أن يقول هذا حكم الله. فابن حزم لا يُطالب العامّي بما ليس في طاقته , ولكنّه يُطالبه بما هو في طاقته ولا يدعوا إلى تعطيل المصالح , إنّما يُريد عند سؤال العاميّ أهل الذكر أن يفهّموه أنّ ذلك حكم الله , لا حكم إمام بعينه [105]. يقول الإمام ابن حزم: " فقد فرض الله عليه – أي العامّي – أن يقول للمفتي إذا أفتاه: أكذا أمر الله تعالى أو رسوله , صلّى الله عليه وسلّم؟ فإن قال له المفتي: نعم لزمه القبول. . . . فإذا زاد فهمه فقد زاد اجتهاده , وعليه أن يسأل: أصحّ هذا عن النبيّ , صلّى الله عليه وسلّم , أم لا؟ فإن زاد فهمه سأل عن المسند والمرسل والثقة وغير الثقة , فإن زاد سأل عن الأقاويل وحجّّّّّّّّّة كلّ قائل , ويفضي ذلك إلى التدرّج في مراتب العلم " [106]. وقال في موضع آخر: " وكذلك إنّما نُحرّم إتباع من دون النبيّ , صلّى الله عليه وسلّم , بغير دليل , ونوجب إتّباع ما قام الدليل على وجوب إتّباعا " [107].
ممّا سبق يتبيّن لنا أنّ الإمام ابن حزم , وإذ يقول بتحريم التقليد ومنعه , فإنّه في حقيقة الأمر يُحرّم التعصّب لأقوال العلماء وتقليدهم بصورة عمياء , واعتبار أقوالهم دليلا لا يجوز الخروج عنه , وتقديم أقوالهم على قول الله وقول الرسول , صلّى الله عليه وسلّم , ولذا فإنّه لا يكون الفرق كبيرا بين ابن حزم وبين العلماء الذين أجازوا التقليد , بل أوجبوه على العامّة , ولا يكون الفرق جوهريّا , فقد اتّفق الإمام ابن حزم مع غيره على أنّ العامّي لا يُكلّف تعرّف الحكم من كتاب الله وسنّة رسوله؛ لأنّ ذلك يحتاج إلى دراية خاصّة , وتفرّغ طويل , فقد اتّفق ابن حزم مع غيره على ذلك , ولكن الأئمّة قالوا: إنّ مذهب العامّي هو مذهب مفتيه , وللمفتي أن يقول له: هذا مذهب فلان فخذ به. أمّا ابن حزم فيقول: لا , بل الواجب أن يقول: هذا حكم الله فخذ به , فيشترط أن يكون المفتي مجتهدا والمستفتي لا يطلب الحكم في مذهب , إنّما يطلب حكم الله تعالى , وإذا كان للعامّي حظ من العلم سأل عن الحديث , وإذا كان له حظّ أكثر , سأل عن سنده , وهكذا " [108].
المطلب الرابع: القول الراجح في المسألة.
بعد أن عرضت أقوال العلماء وموقف ابن حزم في المسألة , أرى , والله أعلم , أنّ القول الراجح هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأوّل وهم جمهور العلماء , مع التأكيد على أنّ موقف الإمام ابن حزم من التقليد لا يختلف كثيرا عن قول الجمهور؛ لأن التعصّب لرأي مذهب أو عالم دون النظر إلى الأدلّة التي اعتمدها صاحب المذهب أو العالم , لا يصحّ ولا يجوز , بل هو من التقليد المذموم عند العلماء كما مرّ بنا سابقا , أمّا التقليد المحمود فهو جائز , وذلك للأسباب التالية:
السبب الأوّل: رجحان الأدلّة التي اعتمد عليها أصحاب القول الأوّل , والتي تبيّن جواز التقليد بالنسبة للعامي بشكل واضح.
السبب الثاني:أنّ الأدلّة التي اعتمد عليها الفريق الثاني , المانعين للتقليد , محتملة ويمكن مناقشتها على النحو التالي:
أوّلا: استدلالهم بالآيات القرآنيّة التي تُحرّم إتّباع الآباء والأجداد والسادات , استدلال في غير محلّّه؛ لأنّ الذم هنا إنّما هو على التقليد في العقائد ونحوها ممّا يُطلب فيه العلم [109] , أو ذمّ للتقليد الأعمى الذي لا يعتمد على دليل.
¥