تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أ/ تختلف الأسباب التي تدعو لنشأة ظاهرة ما. فمنها أحيانًا طبيعة الظاهرة ذاتها وما تفرضه، ومنها ما هو من صنع الإنسان نفسه، فمثلاً ما نحن بصدده من عوامل التعسير في النحو العربي؛ فإننا نجد الانبعاج والترهل الذي أصابه على يد أهله بسبب حرصهم على استقصاء كل ما يتعلق بمسائله سالكين لذلك كل السبل التي تيسرت لهم من حركة وثقافة وعلوم. مما أدى بطبيعة الحال إلى فتور التلاميذ وقصور هممهم.

ب/ عامل يعود إلى صاحب الصنعة نفسه، حينما حاول بعضهم أن يتكسب بهذا العلم ويتخذه مظهرًا اجتماعيًا يجلب له الوجاهة والتفرد في مجتمعه، فصار يدخله في مسائل لا تسمن ولا تغني من جوع، ومن ثم نجد من دخل في ديار النحو طلبًا للمال ومناصرة للمذاهب، فغدا النحو مخيفًا فشاب من شاب خوفًا منه ومات من مات كمدًا ومكايدة في مجالسه، وهذا فيما أحسب من العوامل الحادة التي جعلت النحو يتحرك في دائرة حرمته كثيرًا من الافكار النيرة والوقفات الصائبة. ولننظر فيما يأتي من الأقوال كنماذج لهذه المسألة فالنحاة أحيانًا يتجاوزون لأكثر من علة كسؤال السائل عن زيد في (قام زيد) لم رفع؟ فيقال لأنه فاعل مرفوع (هذه العلة الأولى) فيقول لم رفع الفاعل؟ فيقال للفرق بين الفاعل والمفعول (هذه العلة الثانية) – فيقول فلم لم تعكس القضية بنصب الفاعل ورفع المفعول؟ فيقال لأن الفاعل قليل والمفعولات كثيرة فأعطى الأثقل الذي هو الرفع الفاعل وأعطى الأخف الذي هو النصب للمفعول لأن الفاعل واحد والمفعولات كثيرة، ليقل في كلامهم ما يستثقلون ويكثر في كلامهم ما يستخفون. فهل مثل هذا يزيدنا علمًا، أظن الاجابة سالبة إذ لو جهلنا ذلك، لم يضرنا جهله لأنه في الواقع رفع الفاعل الذي هو مطلوب الدارس. هذا ومن وجوه التفسير ذلك الحديث الذي جرى بين من ينتحل النحو وآخر ذي إلمام – في قول كثير:

وأنت التي جببت كل قصيرة =إلىّ وما تدري بذاك القصائر

عنيت قصيرات الحجال ولم أرد =قصار الخطا شر النساء البحاتر

1

2 وأنت التي جببت كل ii قصيرة إلىّ وما تدري بذاك ii القصائر

عنيت قصيرات الحجال ولم أرد قصار الخطا شر النساء ii البحاتر

قال بعضهم البحاتر مبتدأ وشر النساء خبره، وقال بعضهم يجوز أن يكون شر النساء هو المبتدأ والبحاتر خبره، وكان هناك من يرى أن الشاعر لا يريد إلا أن يخبر أنّ البحاتر شر النساء وأنكر صحة غيره ... وجعل يكثر من ذكر الموضوع والمحمول، ويورد الألفاظ المنطقية التي يستعملها أهل البرهان فقلت له أنت تريد أن تدخل صناعة المنطق في صناعة النحو وصناعة النحو تستعمل فيها مجازات ومساحات لا يستعملها أهل المنطق، وقد قال أهل الفلسفة يجب أن تحمل كل صناعة على القوانين المتعارفة بين أهلها، وكانوا يرون أن إدخال بعض الصناعات في بعض إنما يكمن من جهل المتكلم أو عن قصد منه للمخالطة واستراحة بالانتقال من صناعة إلى أخرى إذا ضاقت عليه طرق الكلام (4).

ومما يؤيد هذا المنحى ذا الجذور ما روى عن سبب وضع الفرَّاء للحدود واملائه:

إنّ جماعة من أصحاب الكسائي صاروا إليه وسألوه أن يُملي عليهم أبيات النحو ففعل، فلما كان المجلس الثالث قال بعضهم لبعض إن دام هذا على هذا علم النحو الصبيان. والوجه أن يُقعَد عنه فقعدوا. فغضب وقال: سألوني القعود. فلمّا قعدت تأخروا والله لأملين النحو ما اجتمع اثنان فأملى ذلك ست عشرة سنة.

وعند إنعام النظر إلى هذا النص ترى من يريد النحو لاسم لا يفقهها كل الناس حتى لا يشاع، بينما نرى إصرار الفراء على التيسير وما أظن الرجل إلا مريدًا بذلك الخروج من حزن إلى سهل حتى يستجم الدارس ويلتقط أنفاسه ويدفع عنه الملل، وما أظن أولئك الممتنعين والقاعدين إلا آمّين الحزن من المسائل، وبهذا يقطعون ظهر الدارس ويبتّون قواه الذهنية والبدنية، فيقف دون مرامه فيكون لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى. وإذا كان أساسًا الهدف من تعليم النحو عند قدمائنا الأجلاء محاولة فهم القرآن وإدراك معانيه، فما العيب في أن يفهمه الصبيان، وكان من الجميل جدًا عند المرغبين الميسرين أن تتجه هممهم للتعمق في الصوت وفي اللفظة وفي الجملة، مما اقتضاهم طرق كل باب يفضي إلى الإفصاح عن أسرار التركيب القرآني، ومن ثم نتابع النحاة في هذه القرون الممتدة يؤصلون، ويفصلون، ويشرحون ويعللون وهم في ذلك لا يغفلون لحظة عن الهدف

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير